حُرمةُ شَهادةِ الزُّورِ

بقلم د. ياسر فوجو استاذ مساعد بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية بغزة
عندَ إمعانِ النظرِ في الخطابِ التشريعيِّ؛ نَجدُ تفاوُتاً في درجاتِه؛ سواءَ كان في جهةِ النهيِّ، أو في جهةِ الأمرِ، ونهتمُّ في هذا المقالِ بالتفاوتِ في جهةِ النهيِّ؛ فقد يأتي النهيُّ عن الحرامِ بعباراتٍ تشريعيةٍ مخفَّفةٍ، وقد يأتي الخطابُ بعباراتٍ تشريعيةٍ مغلّظةٍ؛ أي تدلُّ على الشدّةِ في النهيِّ؛ ويُمثَّلُ لذلك بالنهيِّ عن شَهادةِ الزورِ؛ فقد نهَى عنها الشارعُ بأقوى العباراتِ التشريعيةِ الدالّةِ على النهي، ولقد جاء التشديدُ في النصوصِ بِقسمَيها (الكتابِ والسُّنةِ)، فلو نظرنا في قولِه تعالى:﴿.. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾؛ لوَجدْنا أنّ الخطابَ غايةٌ في القوةِ، والتشديدِ الدالِّ على تحريمِ شَهادةِ الزورِ؛ وذلك للأسبابِ الآتيةِ:
- جاء النهيُّ بصيغةِ الاجتنابِ؛ ويُفسَّرُ الاجتنابُ بأنْ تجعلَ بينَك وبينَ الحرامِ مسافةً كبيرةً.. وهو أبلَغُ في النهي؛ الأمرُ الذي يدُلُّ على عدمِ الاقترابِ من شهادةِ الزورِ، والعملِ بها مُطلقاً، وهذا الأسلوبُ قد استُخدمَ في تحريمِ الخمرِ؛ لأنها أمُّ الخبائثِ، قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويُلاحَظُ أنَّ كلَّ المَنهيّاتِ المُعبَّرِ عنها بصيغةِ الاجتنابِ تتردَّدُ بينَ الكبائرِ، أو الأشياءِ الخطيرةِ المُترتِبِ عليها الإثمُ الكبيرُ.
- لَمّا عطفَ اللهُ _تعالى_ شَهادةَ الزورِ على عبادةِ الأصنامِ؛ دلَّ ذلك على شدّةِ النهيِّ عنها؛ لأنه من المتعارَفِ عليه عندَ أهلِ اللغةِ التساوي بينَ المتعاطفاتِ في الرتبةِ؛ وإلّا لَما كان للعطفِ فائدةٌ؛ وبذلك تتساوَى شهادةُ الزورِ مع الإشراكِ باللهِ في الإثمِ.
وأمّا الخطابُ الدالُّ على حُرمةِ شهادةِ الزورِ من السُّنةِ؛ فقد جاء في الحديثِ الذي رواه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ذُكِرَ الْكَبَائِرُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ” الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ “، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: ” وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ” أَوْ ” قَوْلُ الزُّورِ “، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.
لقد جاءَ النصُّ النبوي بأقوَى عباراتِ وأساليبِ النهيِّ؛ وذلك للأسبابِ الآتيةِ:
- قال صلّى الله عليه وسلم في بدايةِ الحديثِ:” ألَا أنبِّئُكم بأكبرِ الكبائرِ) ثلاثا؛ً وذلك لزيادةِ الاهتمامِ، والتكرارُ هنا لفائدةٍ وليس للعبثِ.
- وصفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المذكوراتِ في الحديثِ بأكبرِ الكبائرِ؛ ودلَّ على شدّةِ حظرِها وتحريمِها؛ فإذا كانت الكبائرُ من الموبِقاتِ؛ فكيف بأكبرِ الكبائرِ والعياذُ باللهِ؟ .
- عندما ذكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تحريمَ شهادةِ الزورِ؛ كان متَّكِئاً فجلسَ؛ وذلك زيادةٌ في التحريمِ والتشنيعِ على مُرتكبيها.
- أخَذَ صلى الله عليه وسلم يُكرِّرُ (ألَا وشَهادةُ الزورِ)؛ حتى تمنَّى الصحابةُ _رضوانُ الله عليهم_ أنْ يسكُتَ، والتكرارُ هنا لفائدةٍ؛ وهي المبالغةُ في النهيِّ، والشِّدةُ في التحريمِ.
ما هو السرُّ في التشديدِ في النهيِّ عن شَهادةِ الزورِ؟
- لأنّ المَفسدةَ المترتبةَ على الإشراكِ باللهِ تعالى، وعقوقِ الوالدينِ؛ تَعودُ على المُشركِ والعاقِّ فقط؛ بينما مَفسدةُ شهادةِ الزورِ تؤدّي إلى تفتيتِ النسيجِ الاجتماعيّ، وتعودُ بالضررِ على المجتمعِ بأسرِه.
- جاءَ النهيُّ عن شَهادةِ الزورِ بأقوَى العباراتِ؛ لتَهاونِ الناسِ فيها؛ ويحسبونَها هيّنةً وهي عندَ اللهِ عظيمةٌ، والجرأةُ عليها كبيرةٌ، ويَسهُلُ الوقوعُ فيها.
- تُعَدُّ شهادةُ الزورِ ممّا تَعمُّ به البلوَى؛ بمَعنى لا يَسلمُ منها كثيرٌ من الناسِ.
ما هي النتائجُ المترتبةِ على تفشّي شهادةِ الزورِ؟
- ضياعُ الأماناتِ.
- انتشارُ الظلمِ.
- تفشّي الخداعِ، وضياعُ الحقوقِ.
ما هي العقوبةُ الشرعيةُ لِشاهدِ الزورِ؟
شهادةُ الزورِ ليس لها عقوبةٌ مُقدَّرةٌ من قِبلِ الشارعِ في الفِقهِ الإسلامي؛ (كالزِّنا والسرقةِ.. وغيرها) من الحدودِ؛ الأمرُ الذي يجعلُ عقوبتَها (تعزيريةً) حسبَ اجتهادِ الإمامِ أو مَن ينوبُ عنه؛ لتحقيقِ الهدفِ والمَقصدِ الشرعيِّ من (زجْرِ) الفاعلِ وردْعِه؛ فلا يعودُ إلى شهادةِ الإثمِ مرّةً أخرى، ولا يجترئُ عليها غيرِه؛ لذلك فإنّ عقوبةَ شاهِدِ الزورِ تتردَّدُ بينَ الحبسِ والضربِ والغرامةِ الماليةِ، أو التشهيرِ به من خلالِ وسائلِ الاتصالِ الحديثةِ؛ لكي يتّقي الناسُ شرَّه.