قبلَ أنْ يُهدمَ !

بقلم: فيحاء شلش
هي صورةٌ جميلةٌ تكادَ تبدو مستحيلةً حينَ أغوصُ في تفاصيلِها، وكأنّ الروحَ تشتاقُ أكثرَ إلى ذاكَ المكانِ؛ حين نعيشُ الواقعَ قبلَ أعوامٍ طويلةٍ، فقبلَ عامِ (1948) كان المسجدُ الأقصى المبارَكُ مُلكاً خالصاً للمسلمينَ، لا يصارِعُهم في ذلكَ باطلٌ يدَّعي الحقَّ زوراً وبهتاناً.
في أعوامِ الزمنِ الجميلِ ذاك، كان اليهودُ يأتونَ عبرَ مجموعاتٍ من السيّاحِ؛ ليَزوروا أولَى القِبلتينِ، شأنُهم شأنُ أيِّ زائرٍ للاستمتاعِ بأجوائهِ وأركانِه وتاريخِ أزماِنه العريقةِ، بِغضِّ النظرِ عن نوايا كانت في نفوسِهم، وتلك لم تكنْ مشكلةً أبداً بالنسبةِ لمن كان يقومُ على أمورِ الأقصى، ويرعى شؤونَه، لأنّ الزيارةَ إلى أماكنَ دينيةٍ؛ لم تكنْ محظورةً حتى على اليهودِ الذين لم يكونوا “مستوطِنين” وقتَها.
ولكنْ بعدَ احتلالِ القدسِ عامَ (1948) وسقوطِ مفاتيحِها في يدِ الاحتلالِ الغاصبِ؛ تغيّرتْ الصورةُ كثيراً، فزياراتُ اليهودِ تحوّلتْ إلى اقتحاماتِ مستوطنينَ؛ وباتوا يدخلونَ الأقصى من بابِ المغاربةِ عَنوةً، وليس تحتَ تنسيقٍ وإشرافٍ من الأوقافِ الإسلاميةِ؛ التي ترعَى دخولَ السيّاحِ _مَهما كانت أديانُهم وجنسياتُهم_ إلى أقدسِ بقعةٍ في فلسطينَ.
ولعلَّ الموقفَ يحتاجُ إلى القليلِ من التأمُلِ؛ فاليهودُ حين كانوا يدخلونَ الأقصَى زوّاراً؛ كانت لديهم النيّةُ المبيَّتةُ، لم يكونوا على قَدرٍ من البراءةِ التي تخيَّلَها الكثيرونَ وقتَها، بل كانت الشرورُ والأطماعُ تملأُ نفوسَهم، وتتجذَّرُ في قلوبِهم، أو رُبما كانوا يضمرونَ في أذهانِهم؛ أينَ من المُمكِنِ أنْ يدَّعوا مكانَ وجودِ “هيكلِ سليمان: المزعومِ، والذي أثبتتْ الدراساتُ التاريخيةُ والأثَريةُ أنه غيرُ موجودٍ أصلاً في تلكَ البُقعةِ، والبعضُ ذهبَ إلى القولِ: إنه لم يكنْ موجوداً بالأصلِ.
في الآوِنةِ الأخيرةِ؛ ظهرتْ بعضُ الملامحِ العنصريةِ؛ التي كشفتْ نَوايا كانت مَخفيّةً، ولو لوقتٍ قصيرٍ، فبعدَ أنْ تمكّنَ المستوطنونَ من اقتحامِ الأقصى_ بإرادتِهم وقتَما شاءوا_ تحتَ حراسةٍ مشدَّدةٍ؛ كي لا يتعرّضوا لأيِّ تهديدٍ أو تضييقٍ، باتوا الآنَ يدخلونَ مراحلَ أخرى في نوعيةِ الاقتحاماتِ.
تلكَ الأمورُ رُبما لن يلاحظَها الكثيرونَ ممّن غَفلوا عن متابعةِ شؤونَ الأقصَى والمسرَى الذي هو لبُّ القضيةِ الفلسطينيةِ، والذي لولاهُ لَماتتْ نواةُ المقاومةِ، ولانحرفتْ البوصِلةُ نحوَ اتجاهاتٍ متشعِبةٍ، فالأقصى هو صمّامُ الأمانِ للقضيةِ، وهو ما يحفظُ إلى الآنَ بوصِلةَ المقاومةِ، لذلك كان حرِيّاً بالكُلِّ الفلسطينيّ أنْ يجعلَه على قائمةِ الأولوياتِ.
وهناكَ في رحابِ المسجدِ؛ الكثيرُ من القصصِ التي لا يعرِفُها الكثيرونَ، “تعلُّقٌ وحبٌّ لأركانِه ومُصلياتِه” لا يمكنُ أنْ ينمَحيَ مَهما طالَ الزمنُ، وكبِرَ الهمُّ، قصصٌ تعكسُ مدَى قيمةِ المسجدِ في قلوبِ الفلسطينيينَ، وليس فقط أهالي القدسِ الذين يتصدَّرونَ الدفاعَ عنه، والرباطَ فيه، وشدَّ الرحالِ إليه.
الأقصى يا مَن تقولُ “إنك فلسطيني” بات على أعتابِ عمليةِ هدمٍ مُبيَّتةٍ، رُبما يقولُ البعضُ إنها جُملةٌ ملَلنا من تَكرارِها، ولكنْ بالفعلِ المستوطنونَ ومن ورائهم أذرُعُ الاحتلالِ ومؤسَّساتُه المختلفةُ؛ استطاعتْ خلالَ الأعوامِ الأخيرةِ أنْ تفرضَ واقعاً مؤلِماً؛ بدأتْ بعضُ ملامحِه تتحقّقُ بتحويلِ الأقصى إلى مكانٍ يهوديٍّ خالصٍ.
في هذه المرحلةِ، الأقصى باتَ على شَفا حفرةٍ من التقسيمِ المكاني؛ أمّا التقسيمُ الزماني فبدأ يُطبقُّ فِعلياً بتخصيصِ فترةٍ مُعينةٍ من السابعةِ وحتى العاشرةِ صباحاً للمستوطنينَ، وتُستأنفُ الاقتحاماتُ بعدَ الظُهرِ، حتى بلغََ الأمرُ _في فترةٍ مُعينةٍ قبلَ أشهر_ إلى منْعِ الاحتلالِ المُصلّينَ من دخولِ الأقصى، وأُغلقتْ أبوابُه للمرّة الأولى منذُ عقودٍ أمامَ روّادِه وأحبائه.
سياساتُ الإبعادِ كذلك؛ بدأتْ تأخذُ مَنحًى خطيراً، وتستهدفُ الكُلَّ من نساءٍ ورجالٍ وحتى أطفالٍ، وتحوّلتْ الثكناتُ العسكريةُ على بواباتِه إلى مراكزِ قنصٍ؛ لاستهدافِ مَن يخرجُ من المسجدِ بالاعتقالِ والتضييقِ والاعتداءِ، أمّا منْعُ التكبيرِ، واعتقالُ من يردِّدُه، فحكايةٌ أخرى؛ تروي خطورةَ ما يحدثُ في الأقصى، وكأنه بالفعلِ مكانٌ يهوديٌّ يُحظَرُ على المسلمينَ دخولُه.
هي ليست عبارةَ تذكيرٍ بِقَدرِ ما هي بالفعلِ ناقوسُ خطرٍ؛ يُدقُّ جرسُه في كلِّ يومٍ، والآذانُ صُمٌّ حتى في الوسطِ الفلسطينيّ للأسفِ، قبلَ أنْ يُهدمَ الأقصى_ ليس مُجردَ تخويفٍ وترهيبٍ لكم؛ بل هي واقعٌ تتطورُ مراحلُ خطورتِه في كلِّ يومٍ، وتزدادُ أشواكُه فتْكاً بالمدافعينَ عنه في كلِّ لحظةٍ_ الأقصى سيكونُ فريسةً قريبةً لِعَدوٍّ لا يرحمُ، بعدَ أنْ نهشَ كلَّ ما هو فلسطينيٌّ، فهل من مُجيبٍ؟ وهل من رادعٍ؟!