البنات والفيس …

بقلم: د. عطال الله أبو السبح النائب في المجلس التشريعي..
في الستينياتِ من القرنِ الماضي؛ صدرَ للروائي الأشهرِ في ذلك الزمانِ ( إحسان عبد القدوس ) روايةٌ باسمِ “البنات والصيف”، كانت تتماشى مع الثقافةِ الرائجةِ في تلكَ الأيامِ؛ التي بدأتْ في كسرِ ما التزمتْ به المجتمعاتُ الإسلاميةُ من عاداتٍ وتقاليدَ؛ مَصدرُها الأحكامُ الشرعيةُ، والتعاليمُ المحافظةُ، وفعلاً نجحتْ الثقافةُ بكلِّ مَصادرِها ومؤسَّساتِها في خلْقِ جيلٍ جديدٍ؛ قد تمرّدَ على المألوفِ، وحطّمَ ما اصطُلحَ على تسميتِه بالثقافةِ، أو السلوكياتِ، أو العاداتِ الرجعيةِ ، الأمرُ الذي دفعَ بعضَ المفكرينَ والمحافظينَ إلى رفعِ أصواتِهم مُحذِّرِينَ ومُنذِرينَ من هذا الخروجِ والتمرُّدِ على ما أسموهُ (بالشخصيةِ العربيةِ أو الإسلاميةِ) ، والمناداةِ بالحفاظِ على الموروثِ ، ضِمنَ معادلةٍ تَجمعُ بين الأصالةِ والمعاصَرةِ ، ولعل أعلى الأصواتِ كانت للأستاذِ “محمد قُطب” الذي وضعَ كتابَه (شُبهات حولَ الإسلامِ) وكتابَه ( هل نحن مسلمون؟ ) وكتابَه الثالث ( جاهليةُ القرنِ العشرين )
وبالعودةِ إلى “البنات والصيف” الذي صُوّر فيلماً فيما بعدُ، ككُل أعمالِ إحسان عبد القدوس ( تقريبا ) كان أقربَ إلى أنْ يكونَ إباحياً ، وكالعادةِ صاحَبه المزيدُ من الصخبِ الإعلاميّ، مُركّزاً على الإبداعِ والتميُّز ، رغمَ الإخفاقِ الشديدِ في إيراداتِ الشُباكِ ، ورغمَ الإبهارِ ونجومِ ذلك الزمانِ من أمثالِ “عبد الحليم حافظ، وكمال الشناوي، ومريم فخرالدين ..”
وبالعودةِ أستطيعُ أنْ أقولَ : إنّ الثقافةَ التي كانت هذه سمتَها سواءٌ في الروايةِ أو الشعرِ أو المسرحِ أو السينما أو الغناءِ ؛ قد أفرزتْ مجتمعاً حائراً مُضطرباً، لا يعرفُ موقعَه ، وخاصةً الأُسرةَ التي نشبتْ فيها صراعاتٌ بين الأجيالِ، وأضعفتْ فيها الانتماءَ ، وتخلخلتْ الروابطُ التي أدّتْ إلى هزيمةٍ ماحقةٍ سنة (67) ، التي سبقها انحسارُ الفكرِ المحافظِ أمامَ السيلِ المتدَفقِ من موجاتِ ( المُعاصَرة ) وزجَّ بالمحافظينَ على الأصالةِ في السجونِ، أو وراءَ الحدودِ، أو وراء الوراءِ ، في تَكرارٍ في الشكلِ في الأغلبِ، وفي المضمونِ غالباً؛ لتجربةِ “:مصطفى كمال أتاتورك” الذي نزعَ الشخصيةَ التركيةَ من جذورِها، ما بينَ عشيةٍ وضُحاها، مما أحدثَ انفصاماً نكِداً بين ماضي تركيا وحاضرِها ومستقبلِها ، وما نجمَ عن ذلك من تقهقُرٍ تركيا وتبعيتِها للغربِ، الذي رفضَها رفضاً مُطلقاً، باعتبارِ شخصيتِها الأصيلةِ، رُغم تنصُلِ “أتاتورك” منها ..
واليوم؛ وقد أراني قد أطلتُ قبلَ الخوضِ في الموضوعِ، أجدُني مضطّراً للربطِ بين التجربتينِ، وما سادَ فيهما من ثقافةٍ، بما يجري في زمانِنا ؛ فأرى نفسَ السّماتِ مع سذاجةِ التجربتينِ السابقتينِ بالقياسِ إلى زمانِنا، الذي انهدمتْ فيه كلُّ الحواجزِ التي تَحولُ دونَ التواصلِ ، واختلاف أدواتِه ..فروايةُ “إحسان” أصبحتْ رواياتٍ فاقت ما نسجَه “إحسان” من علاقاتٍ ، وأزياءٍ بلا أزياءٍ، وسلوكياتٍ تبدو سلوكياتُ أبطالِ روايةِ “إحسان” محافِظةً حيالَها ..
وأمّا عن أفلامِ الستينياتِ؛ فإنها رجعيةٌ بالقياسِ إلى ما يُعرضُ على مواقعِ التواصلِ؛ من إباحياتٍ تمارسُها بناتُ عصرِنا ، اللاتي يدخُلنَ كلَّ بيتٍ وحُجرةٍ ومخدعٍ ، ما يُحدِثُ زلزالاً في سيكولوجيةِ بطلاتِ “الفيس” في عصرِنا ، ومن انحرافٍ إلى سقوطٍ .. فلا ضابطَ لحركةٍ، ولا حدودَ يُمكِنُ مراعاتُها ..
وإذا كانت ثقافةُ الستينياتِ_ التي يمثّلُ “إحسان” أبرزَ شخوصِها_ قد أفرزتْ جيلَ الهزيمةِ ، فأين ستَحمِلُنا ثقافةُ “الفيس” في سنواتٍ قريبةٍ ، وقريبةٍ جداً؛ إنْ لم يتداركْ المُنتَمونَ الحقيقيونَ لهُويةِ هذه الأمّةِ أرضاً وإنساناً وحقوقاً وميراثاً ؟
للحقيقةِ إنّ الأمرَ خطيرٌ .. لسهولةِ السقوطِ ،وتوافُرِ أدواتِه ، وعواملِ الدعوةِ إليهِ ..
الأمرُ خطيرٌ أمامَ المُتتبِّعِ للخطِ البياني ،وأيِّ عملٍ إحصائيّ يُبرزُ الفئاتِ العُمريةَ ، ونِسَبِها التي سقطتْ فعلاً ، والتي لها قابليةُ السقوطِ .
الأمرُ خطيرٌ أمامَ الحقيقةِ المرعِبةِ؛ التي تُمثلُها آلافُ المواقعِ ، وآلافُ المؤسَّساتِ التي تنفقُ ملياراتِ الدولاراتِ؛ للوصولِ إلى هدفٍ مُرعبٍ، وهو مَسْحُ أو مَسْخُ الشخصيةِ؛ التي لا تزالُ تَرى أنّ في الأصالةِ ما يفيدُ ..
وإلى هنا إلى المُلتقى في مقالٍ آخَرَ؛ إنْ أفسحَ اللهُ لنا في الأَجلِ .