حتى لا نخسرَ رمضانَ؛ لِنكُنْ ربّانيّينَ لا رمضانيّينَ.

بقلم: د. صالح الرقب، أستاذٌ مشاركٌ في قسمِ العقيدةِ بالجامعةِ الإسلامية
إنّه الفهمَ الصحيحَ لمَقاصدِ عبادةِ الصيام، وأنه وسيلةٌ لا غِنى عنها لتهذيبِ النفسِ، وإحياءِ القلبِ بالإيمان، هو الخطوةُ الأولَى على طريقِ الاستفادةِ الحقيقةِ من عبادةِ الصيام، وسيكونُ من نتاجِ ذلك الفهمُ أنْ نصِلَ إلى إحسانِ العبادةِ في رمضان. إنّ هذا الشهرَ يمثّلُ فرصةً ذهبيةً لإحياءِ القلبِ وعمارتِه بالإيمانِ، وانطلاقِه في رحلةِ السيرِ إلى الله، لِما قد اجتمعَ فيه من عباداتٍ متنوعةٍ مِثلَ: الصيامِ، والصلاةِ، والقيامِ، وتلاوةِ القرآن، والصدقةِ، والاعتكافِ، والذِكرِ.. الخ. كما أنّ الصيامَ يورِثُ السعادةَ في الدنيا والآخِرة؛ لقولِ رسولِ اللـهِ _صلّى اللـهُ عليه وسلّم: “وللصائمِ فرحتانِ يفرحُهُما، إذا أفطرَ فرحَ بفطرِه، وإذا لقيَ ربَّه، فرحَ بصومِه” رواه مسلم.
لقد عرفَ السلفُ الصالحُ قيمةَ الشهرِ المباركِ؛ فشَمَّروا فيه عن ساعدِ الجدِّ، واجتهدوا في العملِ الصالحِ؛ طمَعاً في مَرضاةِ اللهِ، ورجاءً في تحصيلِ ثوابِه، فقد ثبتَ أنهم كانوا يَدْعونَ اللهَ ستةَ أشهرٍ؛ أنْ يبلِّغَهم رمضانَ؛ ثُم يَدْعونَه ستةَ أشهرٍ أنْ يتقبّلَ منهم، وقال عبدالعزيز بن أبي داود: أدركتُهم يجتهدونَ في العملِ الصالحِ، فإذا فعلوهُ وقعَ عليهم الهمَّ: أيُقبَلُ منهم أَمْ لا؟
ولذلك وجدْنا الإمامَ الأستاذَ “حسن البنا” يهتمُ في دروسِه بتذكيرِ أبناءِ دعوتِه بهذا المَعنَى، فمِمّا قالَ لهم مرّة: “أيها الإخوانُ، رمضانُ شهرُ شعورٍ وروحانيةٍ وتوجُّهٍ إلى اللهِ، وأنا أحفظُ فيما حفظتُ أنَّ السلفَ الصالحَ كانوا إذا أقبلَ رمضانُ؛ ودَّعَ بعضُهم بعضاً؛ حتى يلتَقوا في صلاةِ العيدِ، وكان شعورُهم: هذا شهرُ العبادةِ، وشهرُ الصيامِ والقيامِ، فنريدُ أنْ نخلوَ فيه لِربِّنا”.
وممّا يتناقضُ مع الفهمِ الصحيحِ لمَنزلةِ وقيمةِ شهرِ الصيامِ؛ وجودُ ظاهرة خطيرةٍ في رمضانَ؛ إنها ظاهرةُ إضاعةِ الوقتِ في غيرِ طاعةِ الله!، إنها الغفلةُ والإعراضُ عن الرحماتِ والنفحاتِ الإلهيةِ الرمضانيةِ، قال تعالى )وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) طه:124-127، قالَ ابنُ قيّم الجوزية: “إضاعةُ الوقتِ أشدُّ من الموتِ، لأنَّ إضاعةَ الوقتِ تقطعُكَ عن اللهِ والدارِ الآخِرةِ، والموتُ يقطعُكَ عن الدنيا وأهلِها”.
لقد خلقَنا اللهُ تعالَى لغايةٍ شريفةٍ هي عبادتُه، قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات:56، والعبادةُ هي اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يحبُّه اللهُ تعالَى، ويُرضيهِ من الأقوالِ والأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ، وهي تتضمنُ غايةَ الذلِّ للهِ تعالى، مع المحبةِ له، وهذا المدلولُ الشاملُ للعبادةِ في الإسلامِ هو مضمونُ دعوةِ الرسلِ عليهم السلامُ جميعاً، فما من نبيٍّ إلاّ وأمرَ قومَه بالعبادةِ، قال اللهُ تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)الأنبياء:25، وبناءً على مفهومِ العبادةِ في الإسلامِ؛ يتضِحُ لنا أنَّ الحياةَ كلَّها بأيامِها وشهورِها وسِنيِّها، بل بدقائقِها؛ هي مسرحٌ للعبادةِ ما دامَ غايتُها إرضاءَ اللهِ تعالَى؛ بفِعلِ ما افترضَ، وبالتزامِ ما أوجبَ، والابتعادِ عمَّا نهَى عنه. وما على المَرءِ إلّا أنْ يصاحبَ النيةَ الصالحةَ لجميعِ الأعمالِ الصادرةِ عنه؛ ليكونَ عبداً ربّانياً، قال صلّى اللهُ عليه وسلم: “إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نوَى”.
فالعبوديةُ هي وظيفةُ العمرِ التي خلقَ اللهُ _تعالى_ البشرَ لأدائها وتحقيقِها، وأمرَهم بالقيامِ بهذه الوظيفةِ، وقد فهمَ الصحابةُ _رضيَ اللهُ عنهم_ ومن سارَ على هديِهم حقيقةَ هذه الوظيفةِ، فذاقوا السعادةَ، ووجدوا الطَمأنينةَ والراحةَ، ونعيمَ الدنيا والآخِرة، فما كانوا يعبدونَ اللهَ في وقتٍ دونَ وقت، أو في شهرٍ دونَ شهرٍ، كحالِ كثيرٍ من مسلمي اليومِ؛ الذين نراهم يَنشطونَ للعبادةِ في شهرٍ مُعيّنٍ كما في رمضانَ، أو في أيامٍ معدودةٍ؛ كحالِ من يحَجُّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ، فإذا انقضَى شهرُ رمضانَ، وانقضتْ أيامُ الحجِّ؛ عادوا لِما كانوا عليه قبلَها، فصاروا عباداً لشهرٍ بعَينِه أو لأيامٍ بعَينِها، فكم من مسلمٍ داومَ على صلاةِ الجماعةِ في المساجدِ، وحسنتْ أخلاقُه نوعًا ما في رمضانَ، فلما انقضَى شهرُ التجارةِ مع اللهِ تعالَى؛ رجعَ القَهقرَى فما عادَ يصلّي!، بل عاد يتاجرُ مع الشهواتِ والمعاصي والذنوبِ!، وهذا وأمثالُه ليس عندهم فِقهُ التجارةِ مع اللهِ عزّ وجلّ، فأكثرُ النَّاسِ يعرفُ كيف يتاجرُ في الدنيا، ولكنّ القليلَ منهم من يعرفُ كيف يتاجرُ مع اللهِ عزّ وجلّ، فنحتاجُ أنْ نتعرفَ على فِقهِ التجارةِ مع اللهِ عزّ وجلّ، فمِن فِقهِ التجارةِ مع اللهِ عزّ وجلّ؛ أنْ يستصِحبَ العبدُ الإخلاصَ في كلِّ قولٍ وعملٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى اشترطَ الإخلاصَ، فقال:(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الزمر:3. وقال:(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة:5. وقال النبيُ صلّى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصا له، وابتغَى به وجهَه”. ومن فِقهِ التجارةِ مع اللهِ عزّ وجلّ: أنْ يداومَ العبدُ على العملِ الصالحِ، قال النبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: “أحَبُّ العملِ إلى اللهِ أدوَمُه وإنْ قلَّ”؛ لأنَّ العملَ الدائمَ وإنْ كان قليلاً، فإنِّه يصيرُ كثيراً بالمداومةِ عليه، بل يَربو، ويكونُ أكثرَ من الكثيرِ المنقطِعِ، واللهُ تعالى يحبُّ أنْ يُديمَ فضلَه، وأنْ يواليَ إحسانَه، فيحبَّ الله عزّ وجلّ. لقد كان سلفُنا الصالحُ يجتهدونَ في طاعةِ اللهِ عزّ وجلّ، ولا يفوِّتونَ وقتاً بغيرِ طاعةٍ، فملأوا حياتَهم عبادةً وطاعةً للهِ عزّ وجلّ، بل وتمنّوا لو أنهم واصلوا العبادةَ بعدَ الموتِ، فقد بكَى أحدُ الصالحينَ عند موتِه، فُسئِلَ عن سببِ بكائه؟! فقال: “أبكي يصومُ الصائمونَ ولستُ فيهم، ويصلّي المُصلّون ولستُ فيهم”، وكان ثابت البناني يقول: “يا ربّ إنْ أذِنتَ لأحدٍ أنْ يصليَ في قبرِه؛ فأذَنْ لي”.
نسألُ اللهَ أنْ يُعينَنا على انتهازِ رمضانَ، والاستفادةِ منه، وأنْ يتقبلَ اللهُ أعمالَنا وصيامَنا وقيامَنا، وأنْ يعتقَنا من النارَ.. اللهم آمين.