الرحمة في الإسلام

بقلم الأستاذ الدكتور: عبد السميع العرابيد أستاذ التفسير وعلوم القرآن المحاضر في جامعة الأقصى
الحمد لله الرحمن الرحيم حمد الذين رضوه غايتهم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ومبشراً برحمة ربه، وعلى الذين رضوه أسوتهم وقدوتهم وبعد :-
ففي حلكة ذلك الواقع المرير ووسط دياجير تلك الظلمات بزغ نور الرحمة وتعالت الأصوات بالتكبير الله أكبر الله أكبر حيً على الفلاح حيً على الفلاح، حتى أزيلت كوابيس الظلم، وعميً التقليد، وعصبية الجاهلية وأحدث بعد عسر يسرا وبعد ظلام نوراً، وأشرقت شمس الرحمة تلف بردائها أكناف مكة، ومن حولها حتى شملت الخلائق فاستظلت بظلاله الغامرة، واستراحت من عناء المشقة التي كانت تلقاه من جبابرة الجور، وأرباب العربدة، و فساق الناس، وفي هذا يقول تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة: 15-16)، ويقول : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، (يونس: 57).
فكتاب الله تعالى رحمة لأنه بتعاليمه السمحة ينبوع جياش بكل ما تحتاج إليه البشرية من حب وإيناس، وتعاون، ومودة، ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(الإسراء:82)، ورسوله – صلى الله عليه وسلم– رحمة ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107)، فقد كانت بعثته ميلاداً للرحمة، وتفجيراً لينابيع المحبة، والتعاون، والإخاء وانتشالاً للبشرية من دركات الإلحاد، وعقائد الأهواء
إن رحمته – صلى الله عليه وسلم – جعلت سادة الأقوام وعظمائها يهرعون إلى رايته وجعلت الفقراء والمساكين يلوذون بحماه حتى الحيوان والطير والنبات والجماد احتمي واستعان به.
وقد أشاد الله تعالي بهذه الرحمة فوصفه بما وصف به نفسه فقال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ (التوبة:128).
وسار موكب الرحمة يمخر عباب البلاد ليرسو بين حين وآخر على موانئ القلوب المؤمنة ليرسخ الإيمان وليؤكد صدق هذه الرسالة، وظل الناس ينعمون تحت ظلال هذه الرحمة بمبادئها السامية، وتعاليمها الفاضلة وأخلاقها الفيّاضة، ولكن العتاة غلاظ الأكباد جفاة الطبائع يصرّون على البقاء في مستنقع ظلام أبي جهل وأبي لهب، ويكثر عليهم أن يبقى الموج هادئاً، والهواء علياً نقياً، فأطلت علينا المدينة الحديثة بنظم، وآراء، وأفكار في التشريع والاجتماع، والتربية، وغيرها، وشوهوا صورة التشريعات الإسلامية، ووصفوها بالجمود، والجبروت، والرجعية، وادعوا لأنفسهم الصحة والسداد.
الرحمة صفة ربانية سرت في أرجاء الوجود، فلم تدع منه شيئاً إلا أدركته و أحاطت به قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (لأعراف: من الآية156)، وقد نادى الملائكة بهذه الحقيقة فقالوا :﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ﴾ (غافر: من الآية7)
وهي أيضاً صفة إنسانية كريمة، وعاطفة نبيلة، وخلق عظيم، تبعث على بذل المعروف و إغاثة الملهوف، وإعانة المحروم، وتجعل صاحبها يتألم لا لآم الناس، ويحس بإحساسهم ويبكي لبكائهم، فإذا رأى فقيراً أحس بآلام فقره وأثقال بؤسه، وإذا رأى منكوباً تأثر بوطأة نكبته، وإذا رأى أرملة فقدت عائلها مد يد العون لها و كفكف دموعها وإذا رأى يتيماً ضمه لصدره، ومسح على رأسه و……..والإسلام دين رحمة يريد أن يطبع نفوس الناس بهذه الصفة حتى تمتلئ قلوبهم خيراً وبراً، وتفيض على الدنيا رجاء، وأملاً وسعادة، فالمجتمع الذي لا تتماسك فيه أواصر الأخوة ولا تسري في كيانه ينابيع الرحمة والرأفة مجتمع هزيل العود ضعيف القوام لا بثبت أمام الهزات التي تمر به
و الرحمة خلق لا يدل على ضعف بل هو رمز فخر، ووسام شرف، وعظيم خلق، اتصف بها أشجع الناس وأقواهم بدناً وأرحمهم وأشدهم عطفاً، ألا وهو سيد البشر محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي وصفه ربه بما وصف به نفسه فقال :﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 128)، بل جعله عين الرحمة في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107) .
وكذلك كان أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه كان يوصف بالشدة، والقسوة في جاهليته، وبالرحمة والرأفة في إسلامه، وسيرته في ذلك معروفة .
والرحمة كذلك خلق لا يتنافى مع التأديب اللازم، والعقاب المناسب، فالله تعالى وهو أرحم الراحمين لم تتناف رحمته الشاملة الواسعة مع عقوباته التي حددها للخارجين عن دينه، كما نرى في موقف الحاكم الصالح بشعبه فإن إيقاع العقاب بمن خالف ليس مناف للرحمة، وكموقف الأب مع ابنه والطبيب مع المريض حينما يشق بطن المريض ويستأصل الداء فكل ذلك لا يتنافى مع الرحمة فإن من القسوة لرحمة.
وأما القسوة فهي من صفات الأشقياء الذين خلت قلوبهم من كل معاني الرحمة والرأفة، وقد أشار النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك فقال: (لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ)([1])، وهؤلاء الشرذمة من الناس أصحاب نزوة فاجرة لا تتشبع إلا إذا قتلوا، وسفكوا، وعذبوا، وظلموا، وكأن قلوبهم صخرة صماء لا تسمع بكاء، ولا تعي مناجاة، ولا تحنّ لصراخ وعويل، فلا فرق بينهم وبين الوحوش الضارية المفترسة وجدير بالإنسانية أن تلقي بهذه الفئة العاتية الشقية في مغاور الكهوف والصحاري، أو في غياهب السجون والمعتقلات.
وقد وصف الله تعالى قلوب هؤلاء الأشقياء في بلادتها وعدم تأثرها بالحجارة الصماء فقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ (البقرة: من الآية74)، وهذا هو السبب فيما نراه اليوم من المذابح الجماعية والحروب المدمر والتسابق في ابتكار القنابل المحرقة التي تذهب ضحيتها آلافاً من الخلق إنما هو نتيجة لنزع الرحمة من القلوب وخلوها من النفوس.
إن العالم اليوم يقاسي ألواناً من الشرور، ويكابد أصنافا من الآلام تقض مضاجع أمنه واستقراره وتزلزل كيان طمأنينته وسعادته، وقد ملئت القلوب رعبا وهولا جراء عوامل التخريب والتدمير التي نسجتها أيدي التهلكة والدمار.
والعقلاء من الناس يتلمسونه معالم الخير، والسعاة ويبذلون جهودهم المضنية في سبيل الحصول على السعادة، والاطمئنان في ديارهم، ولكن لا رخاء، ولا سعادة، ولا خير، و لا أمن، ولا اطمئنان ماداموا لا يتلمسون خطى الشرع الإسلامي وتعاليمه، لأنه القوة الكامنة لإسعاد البشرية، ولأنه مفاتيح أقفال أبواب العمل على أمن البشرية وطمأنينتها.
إن التشريع السياسي في الإسلام قد ضمن لكل إنسان حقه، وصان له شرفه وكرامته وعزته فجعل للحاكم حدوداً، وللمحكوم منهجاً، وللجهاد أحكاماً و آداباً، وللحكم نظاماً وقوانين فلا تعدي، ولا جور، ولا ظلم، ولا طغيان، ولا غدر، ولا خيانة، ولا … .
وجدير بأرباب القوى الغاشمة أن يفكروا بمواقفهم الطغيانية إزاء هذه الشعوب المنكوبة وعليهم النظر والتأمل في تعاليم الإسلام، ومبادئه حتى يعودوا بالإنسانية الحائرة التي تتردى في الهاوية إلى معالم السمو والخير، والسعادة.