نساء من الجنة يعشن بيننا

بقلم الكاتبة : دعاء عمار
كثيرات هن النساء اللواتي من الممكن أن تلتقي بهن يوما، لكن من المؤكد أن القليلات فقط من يمكنهن ترك أثر لا ينسى مهما تقادم الزمن على لقائك بهن، لما تركن من بصمات في عقلك وقلبك وذاكرتك، بل من المؤكد أن حياتك لم تعد كما كانت منذ التقيت بهن لما قدمن من نماذج عملية راقية في مجالات شتى.
من تلكم النساء المرابطات والمجاهدات ليس بأبنائهن فقط ولكن بأنفسهن وأوقاتهن ومالهن رغم أنهن قد ضحين بأشياء أكثر وأعز على قلوبهن، من أولئك النساء اللاتي لا أمل الكتابة عنهن المرابطات في المسجد الأقصى الشريف وما يتحملن من إبعاد واعتقال وآخرهن طفلة صغيرة أبعدها المحتل عن المسجد الأقصى وربما لن ننسى ما حيينا صورتها تبكي على إحدى بواباته وكأنهم حرموها دخول مدينة الألعاب!
وقد سبقها زينة عمرو وخديجة خويص وغيرهن الكثير من مجاهدات رغم تدمير بيوتهن وتهجير أبنائهن والتهديد بالاعتقال أو الاعتقال الفعلي والإهانات والشتائم والضرب الذي يتحملنه في سبيل الوصول يوميا للمسجد الأقصى المبارك، أما السيدة الأخرى التي حدثتها شخصيا في أكثر من لقاء إذاعي فكانت نعم المثال للمرأة الفلسطينية التي حفظت زوجها بعد استشهاده.
فأكملت مسيرته وتحملت مرض الأبناء وحاجة بعضهم للرعاية الدائمة المستمرة ولكنها لم تقصر مع ذلك في واجباتها تجاه وطنها ودينها فهي السيدة منى منصور عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن مدينة نابلس وهي سيدة لها باع طويل في الجهاد والمثابرة خاصة بعد استشهاد زوجها القيادي في حركة حماس الشيخ جمال منصور، رغم ما امتلأ به الحوار من واقع مؤلم في الضفة المحتلة نتيجة ما تقوم به هناك أجهزة الأمن القمعية الخاضعة لسلطة التنسيق الأمني مع المحتل.
حيث منعت منذ فترة الجمعيات التربوية والخيرية وأي نشاط أهلي يمكن أن يساهم في بناء الجيل الصاعد فكريا وتربويا ونفسيا ويؤهله لحمل زمام المبادرة والانتفاض مجددا على المحتل وسياساته المتنامية في المصادرة والتهويد والبطش والإذلال، وكانت النتيجة سبات عميق، تزامن مع حرب العصف المأكول على القطاع وما تلاها من محاولات سريعة وشديدة لتقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا كما هو الحال الآن في مسجد خليل الرحمن في مدينة الخليل..
أما من لم ينجح معه القمع والتنكيل في إسباته وتململت روحه وانتفضت قامت أجهزة السلطة باعتقاله أو أفسحت المجال أمام قوات الاحتلال للقيام بالدور بدلا عنها، وهنا للمفارقة ذكرت السيدة منصور موقفا كان معها ومع عدد من السيدات في اجتماع أسري قبل فترة فقالت “كنا مجموعة من النساء تجاوزنا العشرة، فإذا بنا جميعا إلا واحدة إما زوجة شهيد أو أسير أو مطارد، فقالت تلك التي لم يصب زوجها أي من تلك المفاخر “لقد أخجلتموني حقا”!..
هذا الإحساس ليس مكابرة وليس تمنيا للشر بزوجها لا قدر الله، لكنه استشعار لعمل وطني ديني أمسى واجبا على كل قادر رغم صعوبته وشدة وطأته على أصحابه وأهله فيما بعد، فلا بد من مقاومة تمييع الهوية ومصادرة الوطن، وهنا تحمل الأمهات لواء السبق في ذلك فلولا ثباتهن على المبادئ والأسس الصحيحة لما كان لنا أمل في الجيل الناشيء الآن.
وهي هنا ليست بدعا من نساء العالمين، فرغم كم الأهوال التي تتعرض لها الزوجة التي تفقد زوجها بالأسر أو الاستشهاد، أو المطاردة لكنها تبقى حريصة على إنشاء أبنائه كما كان يريد، نكاية في المحتل، واستهزاء بما أراد بها من سلب قوة وتسكين الضعف والوهن في قلبها،، لكنها مع ذلك استمدت من أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، فهي في وهنها وضعفها تحملت عبء الطريق يوميا في رحلة الهجرة وقد وظفت نفسها داعما لوجستيا للنبي وصاحبه في الغار، ووسيلة إعلام صادقة تقص عليهما أخبار اليوم والليلة، كي يتخذا من القرار أصوبه فيما بقي لهما من رحلتهما المباركة..
وهكذا هي المرأة المثابرة في سيرة حياتها، فإن كان جيل انتفاضة الحجارة هو من صنع انتصار العصف المأكول، وقالوا أن من تلاه من جيل قد نشأ مرفها مدللا، لكنه أظهر الآن معدنه الحقيقي، فرغم ما حدث بهم من أهوال في الحرب، وما لاقوه من خوف وفزع إلا أنهم مستمسكون بحقهم في الحياة بعزة وأمان، يحلمون بالجنة صباح مساء، يتعاهدون على اللقاء هناك، يتواعدون ويتسابقون.
وهكذا تثبت هذه الرقيقة الناعمة، أنها الأقوى دوما على تحدي المستحيل، فلا شيء يقف في طريق حلمها بالتحرير والخلاص من الألم، والتعب، فهناك دوما مفاضلة، بين تعب زائل، و راحة أبدية حقيقية بعد تحقيق التحرير وبذل الغالي والنفيس في سبيله.