الدين والحياةكتاب الثريا

الحَرُّ آياتٌ وعظاتٌ

بقلم د. ياسر فوجو أستاذ مساعد بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية بغزة

لَما اعتنتْ القدرةُ الإلهيةُ بكلِّ شيء؛ كانت الآياتُ الظاهرةُ والباطنةُ الدالةُ على أسمائهِ _تعالى- وصفاتِه، وتلك الآياتُ تمرُّ علينا من بينِ أيدينا ومن خلفِنا، وعن أيمانِنا وعن شمائلِنا، ومن فوقِنا ومن تحتِنا، ومن هذه الآياتِ الظاهراتِ الواضحاتِ تَعاقُبُ الليلِ والنهارِ، وتعاقبُ الفصولِ الأربعةِ بما تحملُ من اختلافاتٍ؛ وتأتي جميعُها لتحقيقِ المقاصدِ الإلهيةِ لعمارة الأرضِ، وتحقيقِ مصلحةِ الإنسانِ؛ لذا لا يمكنُ للإنسانِ الاستغناءُ عنها أو بعضِها،

والحديثُ في هذا المقالِ يتناولُ فصلَ الصيفِ الذي تشتدُّ فيه الحرارةُ، وتنضجُ فيه الكثيرُ من الثمارِ الرائعةِ (من عنبٍ وتينٍ ونخلٍ وزيتونٍ)، والقاعدةُ الفِقهيةُ تقولُ:” الغُرْمُ بالغُنْمِ” الأمرُ الذي يجعلُ تَحقُقَ المصلحةِ المَحضةِ نادرةَ الوقوعِ؛ فما من مصلحةٍ إلا ويشوبُها شيءٌ من المفاسدِ؛ فلولا مفسدةُ الحرِّ لَما وجدْنا مصالحَ تلك الثمارِ؛ وعليه فإنّ لِلحَرِّ فوائدَ كثيرةٌ للإنسانِ والحيوانِ والطيرِ.

أمّا لو تحدَّثنا عن الحرِ كآيةٍ من الآياتِ الواضحاتِ الظاهراتِ الدالةِ على القدرةِ الإلهيةِ؛ فلابدَّ من توجيهِ هذه الآيةِ واستثمارِها في صياغةِ العلاقةِ بينَ الإنسانِ وخالقِه، وما أجملَ ما قالَه الشافعيُّ _رحمَه اللهُ تعالى_:” وإذا رأيتَ البدرَ يسري ناشراً *** أنوارَه فاسألـْهُ: مـن أسراكـا؟

وأسألْ شعاعَ الشمسِ يدنو وهي أبعدُ *** كلَّ شـيءٍ ما الـذي أدناكـا؟ فإذا كان الإنسانُ لا يقوَى على حرارةِ الشمسِ؛ وهي على بُعدِ ملايينِ السنينَ الضوئيةِ من كوكبِنا الذي نعيشُ؛ فكيف بنا عندما تَدنوا الشمسُ من رؤوسِ الخلائقِ بمقدارِ ميلٍ، قال عليه الصلاةُ والسلام:” تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ..”.

فمن يُنجِي من حرِّها يومئذٍ؟! وعلى كلِّ حالٍ قد يَقي الإنسانُ نفسَه حرَّ الصيفِ وبردَ الشتاءِ؛ ولكنه لا يقوَى على النارِ ولو للحظةٍ، وهذه النارُ التي نرى من سلاحٍ أو غيرِه؛ بل إنّ كلَّ النارِ التي أنزلَ اللهُ تعالى إلى الأرضِ؛ لَهي جزءٌ من تسعةٍ وتسعينَ جزءاً من نارِ الآخِرةِ؛ من هنا كان لابدّ للإنسانِ أنْ يتعوّذَ من نارِ الدنيا والآخِرةِ، وأنْ يُحسِنَ القولَ والعملَ، وأنْ ينضبطَ بضوابطِ الشرعِ، وأنْ يهتديَ بحرارةِ الشمسِ إلى قدرةِ اللهِ تعالى، نسألُ اللهَ تعالى أنْ يُباعِدَ بينَنا وبينَ النارِ بُعدَ المَشرقَينِ، وأنْ يُنْجينا من بطشِه الشديدِ والعذابِ والوعيدِ، وأنْ يجعلَنا من أهلِ النعيمِ المُقيمِ.

أثرُ الحَرِّ في الأعمالِ الصالحةِ:

أوجبَ الشارعَ على المكلَّفينَ عباداتٍ اشتملتْ على قَدْرٍ زائدٍ من المَشقّةِ (كالجهادِ والصيامِ)، وبالرغمِ من مشقَّتِها؛ لكنها تبقَى مَقدورةً للمكلَّفينَ؛ لذا يستطيعُ الإنسانُ القيامَ بها، وتُضَعَّفُ له أجورُها وثوابُها، وهذا المَقصدُ الذي جعلَ الصحابةَ _رضوانُ اللهِ تعالى عليهم_ يؤدُّونَ تلكَ العباداتِ في الحرِّ الشديدِ طمعاً في زيادةِ الأجرِ والثوابِ، لهذا فقد رُوي عن عائشةَ _رضي الله تعالى عنها_ أنها كانت تصومُ في الحرِّ الشديدِ؛ فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم:” أجرُكِ على قدْرِ نَصَبِك” أيْ على قدْرِ تعبِك، لكنْ في زمانِنا يَضجرُ الناسُ من الحرِّ؛ وقد يتلفظّونَ بألفاظٍ كُفريةٍ وشِركيةٍ؛ وقد ينعكسُ هذا على سلوكِهم؛ فتزدادُ المعصيةُ وعدمُ التحمّلِ؛ فتثورُ المشاكلُ العائليةُ، وتُراقُ الدماءُ، وتُهتَكُ الأعراضُ بدّلاً من التقرُّبِ إلى اللهِ تعالى، والصبرِ على حرِّ الدنيا، والتعوُّذِ من حرِّ الآخِرةِ والنارِ.

وأمّا عبادةُ الجهادِ؛ فإنها ثقيلةٌ على النفوسِ؛ لِما فيها من هلاكٍ للنفسِ أو لجزءِ منها، فإذا اجتمعَ حرُّ الشمسِ وحرُّ السلاحِ؛ كانت المشقةُ بالغةً؛ لكنْ في المقابلِ تَرفعُ الدرجاتِ، ويزيدُ الأجرُ والثوابُ، هذا وقد جَعلَ المنافقونَ الحرَّ سبباً للتخلُّفِ عن القتالِ، قال تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾، والناظرُ للآيةِ المتقدمةِ؛ يجدُ أنّ اللهَ تعالى أمرَنا أنْ نَصبرَ على حرِّ الدنيا؛ كي نَنجو من حرِّ الآخِرة؛ لأنّ حرَّ الآخِرةِ شديدٌ لا يمكنُ الصبرُ عليه، قال تعالى: ﴿ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

أسألُ اللهَ تعالى أنْ يَجعلَنا من الصابرينَ على حرِّ الدنيا، وأنْ يرزقَنا جنةَ النعيمِ في الآخِرةِ .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى