القدسُ أقربُ..

غزتْ صورٌ كثيرةٌ.. تناقلَها الفضاءُ الواسعُ لعالمِ شبكاتِ التواصلِ الاجتماعي، مخيلة كل فلسطينيّ حين توَجّه المئاتُ بل الآلافُ إلى الأراضي المحتلةِ عام” 1948″، وفي الشهر الفضيلِ كانت تلك الصورُ تنتشُر في باحاتِ المسجدِ الأقصى المبارك، وسطَ “تفاخر” بين أوساطِ الشبانِ ممّن كان يستطيعُ الدخولَ إلى باحاتِ الأقصى، والصلاةَ فيه.
منظرٌ جميلٌ.. بل هو رائعٌ لتلكَ الحالةِ “النادرة”؛ التي استطاعَ فيها أهالي الضفةِ المحتلةِ الدخولَ إلى القدسِ والأقصى، والصلاةَ فيه، وإحياءَ ليلةِ القدرِ بأعدادٍ غيرِ مسبوقةٍ، إنه انتعاشٌ عاشَه العقلُ الفلسطينيّ، الذي احتُلَّ قبلَ أعوامٍ طويلةٍ، وما زال يمارَسُ القهرُ بحقِّه على يدِ المحتلين!
وبعدَ انتهاءِ شهر رمضان، توالت صورٌ أخرى؛ ولكنها كانت لآلافِ الفلسطينيينَ يتكدّسونَ على الحواجزِ والمعابرِ المحيطةِ بالقدسِ؛ ليس طمعاً في الوصولِ إلى المدينة.. لا؛ بل طمعاً في الوصولِ إلى مدنِ الساحلِ الفلسطيني “يافا وحيفا وعكا والناصرة وطبريا” وغيرِها، مَشهدٌ كان مؤلِماً.. أنْ تفتقدَ القدسُ أبناءَها.
الكثيرُ ممّن توجّه إلى تلك المدنِ؛ ذهب بنظرةِ تفاؤلٍ وأملٍ وابتسامةٍ عريضةٍ.. ولكنه عاد عابسًا بنظرةِ حزنٍ عميقةٍ، وصلتْ حدِّ “الذُل”؛ فالمعاملةُ التي تلقّاها هؤلاء؛ لم تكنْ أفضلَ من المعاملةِ التي يتلقونَها يومياً في الضفةِ على يدِ الاحتلالِ.
ليس الأمرُ اعتراضاً على زيارةِ المدنِ المحتلةِ، التي يشتاقُ لها كلُّ فلسطيني، ويحلمُ بالعودةِ إليها؛ بل هو امتعاضٌ من هدْرِ الأموالِ الفلسطينيةِ في أسواقٍ ومحالٍّ تجاريةٍ صهيونيةٍ في تلكَ المناطقِ، وتلقّي معاملةٍ مَهينةٍ، والشعورِ بالإذلالِ والمَهانةِ والخضوعِ في كلِّ دقيقةٍ يتواجدُ فيها الفلسطينيّ هناك، وليس ببعيدٍ عن هذا مَثلُ الشبانِ الثلاثةِ الذين أرغمتهم “رشفةُ أرجيلة” على دفعِ مبلغٍ ماليٍّ يفوقُ الألفَي شيكل لشرطةِ الاحتلالِ.
الشرطةُ الصهيونيةُ كانت تصطادُ الفلسطينيينَ على تلك الشواطئِ، متعمّدةً تنغيصَ فرحتِهم، والتضييقَ عليهم، وحتى وهم يحلمونَ أثناء تواجُدِهم هناك، بأنهم ولو للحظةٍ أسيادُ هذا المكانِ، كانت عداداتُ ودفاترُ المخالفاتِ تسابقُ الزمنَ، وهي تسجّلُ مئاتِ آلافِ؛ بل رُبما ملايينِ الشواقل على الفلسطينيينَ هناك.
نظرةُ تمعُنٍ واحدةٌ يحتاجُها العقلُ لاستيعابِ الأمر؛ ففي القدس تجارٌ يعانونَ الأمَرّينِ، ويتعرضونَ لحربِ استنزافٍ واسعةٍ من بلديةِ الاحتلالِ؛ تهدفُ إلى ترحيلِهم عن محلاتِهم، وتسريبِها للمستوطنينَ.. بل تسليمِها لهم في وضحِ النهارِ، وهناك يعيشونَ أياماً سوداويةً تحتَ قيدِ المحتلِّ؛ الذي يفرضُ عليهم ضرائبَ باهظةً، ويسلّطَ أيادي المستوطنينَ العابثةَ لتخريبِ بضائعِهم ومحلاتِهم، بل إنّ أيدي شرطةِ الاحتلالِ تستهدفُهم بالغراماتِ بين الفينةِ والأخرى، أو التخريبِ وإتلافِ البضائعِ تحتَ حُججٍ مختلفةٍ، ليس هذا فحسبْ.. بل إنّ هناك حرباً شرسةً على كلّ التجارِ المقدسيينَ من قِبلَ شركاتٍ سياحيةٍ صهيونيةٍ؛ تهدفُ إلى منعِ السياحِ من الوصولِ إلى أسواقِ القدسِ القديمةِ.
مشهدٌ مؤلمٌ لنا جميعاً.. ولكنه يبدو لم يصلْ بعدُ إلى عقولِ أولئك الذين آثَروا أنْ “ينثروا” أموالَهم تحتَ أرجلِ التجارِ الصهاينةِ، ورجالِ الشرطةِ بطريقةٍ أو بأخرى، وبشكلٍ متعمّدٍ أو غيرِ متعمّدٍ، وبوسيلةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرةٍ.
ليس الأمرُ هيّناً.. كما يحاولُ البعضُ أنْ يحوِّله؛ فزيارةُ المدنِ المحتلةِ، وهي تحتَ قيودِ المحتلِّ؛ أمرٌ لا أستسيغُه شخصياً، ولا يروقُ لي أنْ يتحكّم بي المحتلُّ؛ أين أتجولُ.. وأين أذهبُ.. بينما هناك تجارٌ وباعةٌ متجولونَ في القدسِ، يحتاجوَن لكُل قرشٍ كي يبقوا على أسطورةِ الصمودِ ماثلةً في المدينة.
هؤلاء لا يحتاجونَ مِنا الشعاراتِ فقط؛ بل يحتاجونَ الاهتمامَ والاكتراثَ.. في الوقتِ الذي تَناساهم فيه رأسُ الهرمِ الفلسطيني، ولم يعودوا أولويةً للشعبِ، ولا القيادةِ.. القدسُ أقربُ يا سادة، وتجارُ القدسِ البُسطاءُ أقربُ من تجارِ حيفا وعكا الصهاينةِ.