من الفنِّ التشكيلي إلى الطبِّ فالتنمية البشرية

حوار: صابر محمد أبو الكاس
صراخ الصمت المساحات البيضاء، اسمٌ اشتهر في مواطن عدة، بين دفّات الكتب، ولوحات الفن، ومواقع التواصل الاجتماعي، فهو التوقيع الشخصي لضيفتنا التي اتخذته شعاراً لها في حياتها، فلم ترتضِ أنْ تكون مجرد إنسانة عادية؛ بل شقَّت طريقها لتضع لها بصماتٍ في هذه الحياة، متنقلةً بين الفنّ التشكيلي والطبِّ، ثم الكتابة النثريةِ والتدريب في التنمية البشرية.
على بساط “السعادة” نحاور الدكتورة والرسامة والمدربة الفلسطينية “هند القطاوي”، نتعرف على رحلتها مع موهبة الفنّ التشكيلي، ومن ثم دراستها الصيدلة والتحاليل الطبية، ثم توجّهها نحو التدريب في التنمية البشرية.
بداية عرّفينا بنفسك؟
هند محمود القطاوي، مواليد “1982”، أنحدر في الأساس من مدينة غزة، ترتيبي بين إخوتي الثانية من بين تسعة إخوة وأخوات، انتقلتُ بعد عامي الأول مع أسرتي للعيش في الإمارات العربية المتحدة، حتى سن العشرين، إلى أنْ عدتُ لغزة، وحصلت على البكالوريوس والماجستير في التحاليل الطبية، وحاليا مدربة في التنمية البشرية، أمتلك موهبة الفنِّ التشكيلي، والكتابة النثرية.
متى بدأت رحلتك مع الفن التشكيلي؟
بدأت منذ طفولتي، وأنا في الصف الرابع الابتدائي، حيث كنت أعيد رسم وتلوين الرسوم المتحركة، التي كنت أشاهدها عبر التلفاز، ومع الممارسة، وجدت نفسي في تطور مستمر مع موهبة الرسم، ورُبما الدافع في استمراريتي وإتقاني موهبتي؛ هو الهدف الذي رسمتُه في مخيّلتي من صغري، فعندما كنت أتابع بعض برامج التلفاز، التي تستضيف ذوي المواهب من الرسامين؛ كان يتمُ سؤالهم في بداية حوارهم: متى بدأت موهبتك؟ فكانت إجابات معظمهم منذ الطفولة؛ حينها تَبادر إلى ذهني سؤال؛ لماذا لا أكون في يوم من الأيام ضيفةً على وسائل الإعلام، ويسألوني نفس السؤال؟
حدّيثنا عن تطور موهبتك في الرسم؟
أولاً، كان للأهل دورٌ في ذلك بالتأكيد، ثم إنّ هدفي الشخصي الذي انطلقتُ منه، كان عاملاً مُهماً في تطور موهبتي، فكثيراً ما كنت أحدث نفسي، لماذا لا يكون لي بصمةٌ في هذه الحياة؟ وإبداع يرافقني أينما حللت؟، وبالفعل حققتُ ذلك بفضل الله، ثم بفضل التحفيز المستمر، الذي كنت أتلقاه من الأهل والأساتذة والزملاء والصديقات.
الفن التشكيلي موهبة يتقنها كثيرون، فهل للدكتورة “هند” بصمتها الخاصة في هذا المجال؟
أتفقُ معك أنّ الفن التشكيلي عالمٌ واسع، يتقنه كثيرون، لكني عزمت ألاّ أكون تكراراً لأحد، أو شبيهة بأحد، فاتخذتُ قراراً بأنْ يكون لرسوماتي ميزةٌ، تجعلها مختلفة عن جميع الرسومات، ومن يشاهدها يعرف أنّ تلك الرسمة “لهند القطاوي” وكأنها تحمل شيفرة معيّنة، حتى وإنْ كانت من دون توقيعي.
على ذِكر توقيعك، يلاحظ أنك عنونتيه باسم “صراخ الصمت، المساحات البيضاء”، فماذا يعني؟
صراخ الصمت: يعني أنّ هناك صنفٌ من الناس يصمت ولا يتحدث، يعتقد أنه مهمّش، وليس له وجود في الحياة، هؤلاء بداخلهم صوتٌ لا يسمعه أحد، فكان هدفي البحث عن هؤلاء، واستفزاز ما بداخلهم وسماعهم، لأنّ صمتهم لم يولد معهم؛ بل تعرضوا له بسبب انتكاسةٍ أو حادثة في حياتهم، منعتهم من التعبير عما في ذواتهم.
المساحات البيضاء: عنيتُ بها؛ أنّ كل إنسان خلقه الله ذا مساحاتٍ بيضاء، وهي الفطرة التي فطَرنا الله عليها، فأحاول من خلال لوحاتي، أنْ أُظهر تلك المساحات من ذوات هؤلاء الأشخاص.
رسوماتك هذه، ماذا أضافت جديداً على صعيد الفن التشكيلي؟
ذكرتُ سابقاً أنّ رسوماتي تحمل في طياتها معاني خاصة، تميّزها عن غيرها من الرسومات، وهذا ربما لأنني أنتمي للمدرسة الرمزية في الرسم، وهذا الأمر ميّزني عن كثير من الرسامين
وماذا تعني المدرسة الرمزية؟
هي الرسم برموز معيّنة، دون رسم ملامح كاملة، كالتعبير عن بعض المعاني والأمور المادية، بأشياء معنوية، كأنْ أُعبّر عن القلب بالعطاء والتضحية والوفاء، فكل رمز مادي أمنحه قيمةً معنويةً، لتمنحه قيمة أسمى وأكبر، لأنّ رسم الرمز كما هو، يجعله مجرداً من المعاني والأحاسيس.
أمّا بالعودة لسؤالك، ماذا أضافت رسوماتي جديداً، فقد أضافت الكثير، منها جعلتني أنظر إلى هذه الرموز كرسالة وقضية تكبرُ في ذاتي، وتتعمق مرة بعدَ مرة، لتصل بعمقٍ إلى قلوب الناس
ما أكثرُ ما تحبين رسمه؟
عادة ما تتنقل لوحاتي بين القضية الفلسطينية والقضية الإنسانية، فأحب أنْ أرسم فلسطين بمعاناتها وانتصاراتها؛ لأنّ فلسطين هي المعلِّمة الأولى للتضحية وللحب والفداء والوفاء، أمّا على الجانب الآخَر الإنساني، فأحب رسم الإنسان، محاوِلةً استفزازَ مساحاته البيضاء، لأنّ من الناس من نجدُ أنّ معالم الإنسانية في ذواتهم مشوّهةٌ، وتحتاج لاستثارة الفطرة التي فُطروا عليها، من الخير والحب، وإعادة تنقيتِها من الشوائب التي تعتريه.
هل تقتصر رسوماتك على اللوحات فقط؟
في الغالب نَعم؛ لكني توجّهت قبل فترة نحو الجدران، كان ذلك بعد العدوان الأخير على غزة، عندما شاركتُ في تظاهرة ضد استهداف الاحتلال “لبرج الظافر” حيث قمت بترك بصمةٍ على جدران البرجِ المهدم، لنُظهر من خلالها رسالة تحدي، فرسمتُ خارطة فلسطين موشّحةً بالكوفية الفلسطينية، وزينتها بكلمات الأنشودة الوطنية الحق سلاحي وأقاوم؛ أنا فوق جراحي سأقاوم؛ يرحلون ونبقى والأرض لنا ستبقى؛ هانحن اليوم أقوى، كما قمتُ بالرسم والنحت على بقايا صاروخ ألقته طائرات الاحتلال الحربية.
على ذِكر العدوان، كيف يعايش الفنان الحروب؟
للفنان نظرته المغايرة عن الآخَرين، فهو يجسّد الألم بصورة أكبر؛ لأنه يتعايش معه أكثرَ من غيره، كونه إنساناً مرهَفَ الإحساس، وتزداد مسؤوليتنا عندما نمسك بالريشة، ونرسم القضية، لاسيما أنّ الصورة هي بألف كلمة كما نعلم.
ما أجملُ لوحة قمتِ برسمها، ولها معك حكاية، وفي قلبك مكانة ؟
بالتأكيد أنني أعتز بجميع رسوماتي، فهم بالنسبة لي أولادي وبناتي، بَيد أنّ أكثر الرسومات التي تركتْ صداها على الصعيد المحلي والدولي، هي لوحة النكبة، فقد عبّرت عنها بشكل كبير، بشهادة كل من شاهدَها، حتى أنّ ألم فلسطين وصل لقلوب الكثيرينَ، من خلال لوحتي هذه، وأذكرُ هنا صديقةً لي تقطن دولة الإمارات، جاءت زيارة لغزة، عندما كانت تشاهدُ أعمالي الفنية تفاجأت بلوحة النكبة، وبدأت في البكاء، حينها سألتها لماذا تبكي؟!! قالت: لم أكن أتوقع أنْ تكون صديقتي هي من رسمتْ تلك الرسمة، قلت لها لماذا: قالت: في ذكرى النكبة، ونحن في الإمارات قُمنا بإحياء النكبة من خلال تلك الصورةِ، حيث قام كلُّ من هو فلسطيني باقتناء هذه اللوحةِ، ونشرِها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بشكل موحد، إحياءً لذكرى النكبة.
من هنا اعتبرتُ أنّ تلك الرسمة هي الأفضل بالنسبة لي، بعدما انتشرتْ بين الصفحات، وفي المعارض بشكل موحد.
هل انعكس الفن التشكيلي هذا على حياتك الخاصة، وعلى أعمالك المنزلية؟
نَعم صحيح، فكثيراً ما أحب تزيين الأطباق المختلفة، فلابد من تقديم الأطباق مع لمساتي الخاصة، فكما يكون للوحاتي بصمة، أيضا أكلاتي وطبخاتي عادة ما يكون لها بصمة، فالفنان عادة ما يُسقط فنه على كل شيء، سواء في ترتيب البيت أو تزيينه.
إذا ما انتقلنا إلى هواياتك الأخرى، وتحديدا الكتابة النثرية، ما حكاية النثر؟
إجابتي على هذا السؤال، ربما تكون سبباً في الكشف لأول مرة عن سبب توجُهي للرسم، وهي الكتابة، فكنت دائماً ما أكتب في صغري نثريات تحاكي الواقع، ومن أكثر ما اشتهر من كتاباتي، خاطرة بعنوان “قصة وهوية” حيث وصفت فيها القضية، وأوضحت من خلالها الهوية، تطورت كتاباتي شيئا فشيئا، فأضحت كلماتي في شكل رسومات أقولِبها بشكل جديد.
من فترة بدأت ألقي بعضا من كتاباتي في صالونات شعرية، فوجدت انبهاراً وإعجاباً من الكُتاب والأُدباء الذين انبهروا من رصانة كلماتي، وقوة لغتي، وشجعوني على المزيد من الكتابات.
حفل تخرجك جاء بعد عدوان استمر 51 يوماً، لا شك أنه حفل امتزج بالحزن على فراق كثيرين، أليس كذلك؟
هذا صحيح، لذلك اغتنمتُ هذه الفرصة أمام آلاف الحضور، وأهديت للشهداء عامة، ولشهداء الجامعة خاصة، لوحةً سطرت على جنباتها نشيدَ الوصية.. وصيتي لكم إن كنتُ لن أعود.. ألتقي بكم في جنة الخلود..
من الفن، إلى الطب، إلى عالم التنمية البشرية، فما الدافع للالتحاق برَكب المدربين؟
في الواقع أن دراستي للتحاليل الطبية، عرضتني للضغط الشديد، فجلُّ وقتي كرّسته من أجل إنهاء دراساتي العليا، وفور تخرُّجي استشعرتُ وكأنني أصبحت حرة، يمكن أنْ أكتسب المزيد من العلوم والمهارات، فقررت المشاركة في دورات التنمية البشرية، وتدربت على أيدي عدد من المدربين، كان أبرزهم المدرب “صابر أبو الكاس” والذي اعتبره الدافع الرئيسَ في خوضي مجال التدريب، فقد ترك أسلوبه التدريبي أثره بداخلي، من خلال بصمته الخاصة، التي ميّزته عن غيره من المدربين الذين حضرتُ لهم، وهذا ما يتوافق مع رسالتي في الحياة، فأحب أنْ أترك بصمتي الخاصة في كل مكان ارتاده .
ومع الوقت خضتُ العديد من الدورات، و انضممتُ لمشروع سفراء التنمية البشرية، حتى تم منحي لقبَ “سفيرة تنمية بشرية”، وهنا كانت بداية انطلاقتي، ولا يشترط هنا أنْ أحصل على ألقاب، أو أنْ يمنحني أحد مسميات، لأنني أعدُّ نفسي على الدوام سفيرةً للخير، ولكل ما هو نافع للبشرية، فذلك منتهاه الجنة، وهذا ما نصبوا إليه في تلك الحياة.
ومن هنا فرسالتي في التدريب، تنطلق من كوني مسلمةً ملتزمة، لا أتخذ الإسلام قولاً وشكلاً، بل فعلاً وعملاً، وهذا ما أغرسه في قلوب كل من يلقاني، حتى ولو كان مجرد لقاء عابر.
وإلى أين تريدين الوصول بمجال التدريب؟
إلى العالمية بإذن الله، حيث أسعى لتمثيل فلسطين دولياً في ملتقيات ومنتديات متعددة، وقد اتخذتُ خطوات فعلية في هذا الجانب، حيث حصلتُ بفضل الله مؤخّراً على عضوية البرلمان الدولي لعلماء التنمية البشرية، والذي يعدُّ أكبر كيان حالياً يهتم بالتدريب والمدربين، ويدخل تحت عباءته مؤسسات ومراكز وشخصيات، لها اسمها في مجال التنمية البشرية على مستوى العالم، كما أسعى حالياً للحصول على عضويات دولية في مجال التدريب، تؤهلني للتدريب خارج فلسطين.
بالانتقال من حياتك المهنية إلى الشخصية، ولنبدأ بنقطة ضعفك؟
نقطة ضعفي هي الحزن.
وما أكثرُ موقف أحزنك؟
مغادرة شقيقتي “شيماء” غزة إلى الإمارات هو أكثرُ ما أحزنني، فقد أفقدني ذلك تركيزي وتوازني لفترة.
لماذا شيماء؟
لأنها الأقرب إلى قلبي، خاصة أنّ فرق العمر بيني وبينها عام ونيف، درسنا في المدرسة سوياً، وكبرنا سويا، وقضينا كثيراً من الأوقات مع بعضنا، هي ليست أختاً فقط؛ بل صديقة وحبيبةً ومستشارة، كأننا نصفان يكتملان، فهي تميل إلى العقلانية أكثرَ، بينما أميل أنا إلى العاطفة أكثر، وهذا ما يجمعُنا ويكملنا، أسميها على هاتفي (أصدق رفيقة) فعندما تركتني أشعرني ذلك باليُتم.
هل نفهم من ذلك أنّ “شيماء” استحوذت على قلب “هند” بالكامل؟
ليس ذلك تحديداً، فأنا أملك من الحب الكبير، لكل إخوتي وأخواتي، لكن شيماء أكثرهم، وبالمناسبة لي شقيقتان أيضاً هما “مريم وميسرة” في الجامعة الآن، أعدُّهما بناتي، فقد ربيتُهما وحتى الآن ينادوني ماما هند.
ما أكثرُ ما يغضبك؟
البرود واللامبالاة، فعدم تحلي الإنسان بالمسؤولية يغيظني كثيراً.
وما أكثرُ ما يغيظك؟
عدم احترام الآخَرين للوقت، وعدم التزامهم بالمواعيد، إلى جانب الزيارات دون موعد مُسبق، هذا يضايقني كثيراً.
ما أكلتُك المفضلة؟
البيتزا.. أضعف أمامها، إلى جانب أكلة البرياني وهي خليجية.
شرابك المفضل؟
المشروب البارد الليمون بالنعناع، وأمّا الساخن الشاي الأخضر بالنعناع.
أخيراً ما لون مستقبلك وطموحك؟
أطمح لأنْ أكون سفيرة فعليةً ضمن مشروع سفراء التنمية؛ لأنقل من خلاله صورة فلسطين بشكل عام، وغزة الجميلة بشكلٍ خاص، كما أسعى لترْك بصمةٍ لي في مجال التدريبِ في مجالاتي المهنيةِ الأخرى.