“مُنى كَسكين” أولُ جرّاحةِ أعصابِ في قطاعِ غزة

داخلَ أروقةِ مستشفى الشفاءِ بغزة، تتنقلُ في قسمِ الجراحةِ العامةِ بلباسِها الأخضرِ المشابِهِ لكُل العاملينَ في المستشفى، إلاّ أنّ العيونَ تَتبعُها أينما ذهبتْ أو دخلتْ ، عينُ المرضى تطالعُها بابتسامةٍ تنمُّ عن الحبِّ والاحترامِ، بينما عينُ أهليهِم تطالعُها بابتسامة أخرى مفادها كل الشكر والعرفان ، بينما علت وجهي ابتسامةٍ أخرى، و أنا أراقبُ حركتَها واهتمامَها وجهدَها ومثابرتَها.. إنها ابتسامةُ الفخرِ بكونِها امرأةً غزيةً، ترسمُ طموحَها بكاملِ الصمودِ .
“مُنى كَسْكِين”، التي تخرّجتْ من جامعةِ “كزاخستان” الحكوميةِ عامَ ” 1998″، الطبيبةُ الوحيدةُ المتخصّصةُ في جراحةِ المخِّ والأعصابِ في مستشفياتِ قطاعِ غزةَ، وتعملُ في قسمِ المخِّ والأعصابِ منذُ “15” عاماً ، لا يحملُ وجهُها أيّاً من ملامحِ الخوفِ أو الضعفِ.. إنها سيدةٌ كاملةٌ تعرفُ ماذا تريدُ؟ وكيف تحقّقُ ما تريدُ؟ ، قادرةٌ على أنْ توازي بين إمساكِ المشرطِ بيدِها، و نظرةِ الإنسانيةِ العميقةِ في عينيها، لتُخبرَك أنك بخيرٍ .
الثقةُ بالنجاحِ
تقولُ كسكين(41 عامًا) لـ”السعادة ” :” الحياةُ عادةً موقفٌ تتخِذُه في بدايتِه؛ ثُم تستمرُّ في ذاتِ المضمارِ واثقاً بنفسِك واختيارِك ، هذا ما حدثَ بالتحديدِ معي؛ عندما قرّرتُ دارسةَ طبِّ الجراحةِ ، حيثُ انهالتْ عليَّ مئاتُ النصائحِ والآراءِ الرافضةِ لاختياري، والناصحةِ لي بدارسةِ طبٍّ آخَرَ؛ يتناسبُ مع طبيعةِ الأنثى المجبولةِ بالرحمةِ والحنانِ .
وتضيفُ: الحقيقةُ أنّ التفكيرَ بالأمرِ أنهكني.. لكنّ قراري النابعَ من معطياتِ قلّةِ المتخصصينَ في ذاتِ المجالِ بقطاعِ غزةَ؛ دفعتني إلى الخوضِ وكلِّى ثقةٌ بالنجاحِ ، حتى تخرّجتُ عامَ 1998 من جامعةِ “كزاخستان”، وهى من الجامعاتِ الجيدةِ على مستوى العالمِ في مجالِ أكاديميةِ الطبِّ .
وتتابعُ: كغيري من النساءِ العاملاتِ في غزةَ في ذلك الوقتِ؛ تعرّضتُ للعديدِ من الانتقاداتِ، تحت ذريعةِ أننا مجتمعٌ “مُحافظ” كوني امرأةً، وعملي في الطبِّ في ذلك الوقتِ لم يكنْ مقبولاً اجتماعياً، إلا أنّ انخراطي بالعملِ، وتصميمي على الاستمرارِ قُدماً بمساعدةِ الأهلِ والعائلةِ و الزملاء، جعلني متفوّقةً بعملي ، في البدايةِ كانت “منى كسكين” الطبيبةَ الوحيدةَ في قسمِ جراحةِ الأعصابِ ، لكنْ مع الوقتِ أصبحتْ “منى كسكين” من ألمعِ أطباءِ جراحةِ الأعصابِ في قسمِ الجراحةِ .
امرأةٌ عادية
وتواصلُ: على الرغمِ من أنّ عملَ الأطباءِ مرهقٌ غالباً جسدياً ونفسياً، لجُلِّ ما نعانيهِ وما نشاهدُه ؛ إلا أنني قادرةٌ على فصلِ متاعبِ العملِ عن الحياةِ الشخصيةِ ، فأنا زوجةٌ وأمٌّ لأربعةِ أطفالٍ، أمارسُ حياتي الاجتماعيةَ على أكملِ وجهٍ، أطبخُ وأكنسُ وأنظّمُ وأعلّمُ.. ، أحاولُ قدْرَ المستطاعِ أنْ أقضي غالبيةَ أوقاتي مع أسرتي ، لديَّ صديقاتي وجاراتي، وتربطُني علاقةٌ بهم كأيِّ امرأةٍ أخرى لا تحملُ مشرطاً، ولا تشاهدُ الدمَ على مدارِ ساعاتِ عملِها .
أصعبُ الأوقاتِ عادةً؛ التي تمرُّ على طبيبةٍ، وكأمٍّ وقتَ الحربِ، والأوضاعِ السياسيةِ المتردّيةِ، فعلى صعيدِ العملِ يداي تمسكُ ببشاعةٍ المحتلِّ، وأشاهدُ حالاتٍ لا يمكنُ وصفُ معاناتِها، أو صعوبةِ حالتِها ، نعملُ في تلك الأوقاتِ لأيامٍ متواصلةٍ.. لا ندركُ حجمَها ولا زمنَها ، همُّنا الوحيدُ فيها إنقاذُ حياةِ أكبرِ عددٍ ممكنٍ من الجرحى والضحايا ، وهذا يتطلبُ مني أنْ أتخلّى عن أمومتي و حقي الخاصِّ بحَضنِ أبنائي، والجلوسِ بجوارِهم، من أجلِ خدمةِ المصلحةِ العامة .
في الحربِ الأخيرةِ كنتُ أتركُ أطفالي لأيامٍ متتاليةٍ في بيتِ عائلتي، وكانت تسكنُني الهواجسُ والخوفُ ورهبةُ الموتِ، كأيِّ أمٍّ أخرى تشاهدُ وتُتابعُ ما يحدثُ من كثبٍ ، لكنّ معاناةَ الآخرينَ وويلاتِهم تجعلُني أكثرَ قدرةً على المواجهةِ والاستمرارِ .
وعندَ سؤالِها عن أصعبِ المواقفِ التي واجهتْها خلالَ العملِ ، تقولُ كسكين لـ”السعادة ” :” عديدةٌ هي المواقفُ اليوميةُ التي واجهتني على مدارِ ساعاتِ عملي المتواصلِ ، كلُّ حالةٍ حرجةٍ هي موقفٌ صعبٌ يواجهُني.. أعيشُ معه بكلِّ التفاصيلِ، إلى أنْ ينتهي الألمُ ، لكنْ من أصعبِ المواقفِ؛ عندما وصلَ أحدُ أقربائي مصاباً خلالَ أحدِ الاعتداءاتِ الإسرائيليةِ، كان مغطّى بالدماءِ.. وحالتُه صعبةٌ وحرجةٌ جداً .