“محمد سلّام” صنع من أعوادِ الكبريتِ فنّاً تشكيلياً يُحاكي واقعَ غزةَ المُحاصَرةِ

إعداد: آلاء العامودي
“محمد سلام” خمسةٌ وعشرونَ عاماً؛ جعلَ من أعوادِ الكبريتِ فناً جديداً، شكَّلَه بيدَيهِ؛ ليُجسّدَ واقعَ غزةَ بحِرفيةٍ وتَميُّزٍ، وصنعَ منه فناً من الفنونِ التشكيليةِ؛ ليصمِّمَ مجسّماتٍ صغيرةً مُذهِلةً، وقد ترجمَ واقعَ حياةِ الغزيّينَ، وجسّدَ معاناتَهم و حصارَهم منذُ عشرِ سنواتٍ باستخدامِ أعوادِ الكبريت.
تَخرّجَ “سلام” من قِسمِ العلاقاتِ العامةِ والإعلامِ من الكليةِ الجامعيةِ للعلومِ التطبيقيةِ عامَ (2014)م ، ولم يَحصُلْ على وظيفةٍ في مجالِ تخصُّصِه؛ كما الكثيرِ من الشبابِ الغزيِّ الذي أثّرَ عليه الحصارُ بشَتّى تفاصيلِ حياتِهم، لكنه سلكَ طريقاً آخَرَ للصعودِ إلى سلّمِ النجاحِ، و لم يقفْ عدمُ حصولِه على الوظيفةِ حاجزاً أمامَ طموحاتِه و أحلامه.
التقينا بالفنانِ “محمد سلام”؛ ليُحدّثَنا عن تجربتِه مع أعوادِ الكبريتِ؛ و كيف جعل منها فناً جيداً يعبّرُ به عن واقعِ الحالِ.. يقولُ سلام:” بدأتْ الفكرةُ قدَراً؛ حينَ أردتُ أنْ أبتكِرَ شيئاً جديداً وغيرَ مُتداوَل ، وفي ذاتِ الوقتِ يعبّرُ عن واقعِ الشبابِ في قطاعِ غزةَ؛ وهي الفكرةُ الأولى للرسمِ التشكيليّ باستخدامِ أعوادِ الكبريت”.
قبعة خريج
ويضيفُ سلام:” أولُ رسمٍ لي كان عبارةً عن قبّعةِ خرّيجٍ مَحمولةً على ناقلةِ الإسعافِ؛ للتعبيرِ عن واقعِ الخرّيجينَ”، لم يأتِ هذا الرسمُ هباءً..؛ ولم يكنْ من واقعِ الخيالِ؛ إنه صورةٌ للتعبيرِ عن أجيالٍ، وعن فئةٍ كبيرةٍ من الخرّيجينَ العاطلينَ عن العملِ؛ الذين وجدوا أنفسَهم في واقعٍ سياسيِّ مُضطَّربٍ؛ وفي ظِلِّ احتلالٍ جعلَ الحصارَ وسيلةَ تضييقٍ على المجتمعِ بأكمله.
ويتابعُ سلام:” أستخدمُ أدواتٍ بسيطةً جداً في هذا النوعِ من الفنِّ؛ حيثُ أعتمدُ على أعوادِ الكبريتِ، و السيليكون، كذلك القطنِ، و الخشبِ، و الكرتونِ؛ بالإضافةِ إلى جهاز (اللابتوب)؛ لوضعِ صورةٍ خلفيةٍ للمُجسَّمِ المصنوع”.
رغمَ الحصارِ “الإسرائيلي” على القطاعِ منذُ عشرِ سنواتٍ؛ إلّا أنّ مئاتِ المواهبِ المتنوّعةِ تَخرُجُ من بينِ رُكامِها وحجارتِها؛ و تتنوعُ ما بينَ (فكريةٍ وأدبيةٍ وفنيةٍ وهندسيةٍ) ومواهبَ أخرى عديدةٍ ومتنوعةٍ ، لكنّ الحصارَ الجائرَ يقفُ عائقاً أمامَ بعضِها، ويمنعُ مشاركتَها في مسابقاتٍ عالميةٍ ودوليةٍ بفِعلِ إغلاقِ المعابرِ المستمرِّ” .
حضور فلسطيني وعربي
ويَعرضُ “سلام” الصعوباتِ التي تواجِهُه في الفنِّ الذي يستخدمُه، حيثُ يقولُ:” انقطاعُ الكهرباءِ المتواصلُ، وعدمُ تَوافرِ الإضاءةِ المناسبةِ مشكلةٌ كبيرةٌ أُواجِهُها؛ حيثُ يستغرقُ العملُ الواحدُ ما يقاربُ ثلاثَ ساعاتٍ ، ويحتاجُ إلى تركيزٍ عالٍ، ومكانٍ هادئٍ ؛ لأنّ إنجازَ الرسمِ يحتاجُ إلى وقتٍ وجهد “.
رغمَ تلكَ الصعوباتِ إلّا أنّ “سلاَّم” لم يستسلمْ لها؛ واستعاضَ عن الكهرباءِ _كما جميعِ الغزيّينَ_ بالّلداتِ في حال انقطاع التيار الكهربائي لاستكمال رسوماته، ويضطر أن يستكمل بعضها في ساعات الليل حسب جدول الكهرباء و ذلك لاستخدام السيليكون لإتمام الرسومات.
استعرضْنا صفحتَه عبرَ (الفيس بوك)؛ لنتعرّفَ على رسوماتِه التي عَرضتْ جزءاً من شخصيتِه بشكلٍ أو بآخَرَ، حيثُ جعلَ للهِمّةِ والنشاطِ والعملِ الجماعيّ ضِمنَ فريقِه جزءاً كبيراً من فنِّه، و استعرضَ العديدَ من السلوكياتِ الإنسانيةِ بطريقةِ الأعوادِ؛ معبّراً عنها بطريقةٍ إبداعيةٍ منها: الاهتمامُ بالآخَرينَ، و الكَدُّ و العملُ، و السعيُّ، وزيّنَ رسوماتِه بعباراتٍ منها”لا تُكثِرونَ الفضفضةَ؛ فأنتم لا تَدرون متى يخونُ المُنصِتونَ؟ مُعبّراً عنها بشكلٍ فني.
و كان للقضيةِ الفلسطينيةِ حضورٌ كبيرٌ في فنِّه؛ حيثُ جسّدَ حقَّ العودةِ بشكلٍ تجريديٍّ جميلٍ، و رسمَ حُلمَه بتحريرِ المسجدِ الأقصى بأعوادِ الكبريتِ؛ وقد تَحرّرَ من دَنسِ الاحتلالِ، وتَزيّنَ بعلمِ فلسطينَ، ولم ينسَ الأسرى من فنِّه؛ فقدْ تَرجمَ معاناتَهم كما الواقعِ، وشكّلَ بتلكَ العيدانِ لوحةَ القهرِ الذي تعانيه النساءُ الفلسطينياتُ من قِبلِ الاحتلالِ الصهيوني…
وكَعربيٍّ ومسلمٍ يهتمُّ لشأنِ المسلمينَ؛ كان “لِحَلبَ” نصيبٌ من أعوادِه حيثُ يقولُ:” من لم يهتمْ لأمرِ المسلمينَ فليس منهم، وما تتعرّضُ له سوريا حَرِيٌّ بالتعبيرِ عنه ؛ حيثُ القتلُ والإبادةُ الجماعيةُ، والهدمُ والتدميرُ، وصنوفُ الموادِ الكيماويةِ المُلقاةِ على رؤوسِ الناسِ؛ بالإضافةِ إلى معاناةِ الشعوبِ عبرَ الحدودِ بينَ الدولِ العربيةِ، فكانت محاولاتٌ بسيطةٌ للتعبيرِ عن الواقع العربي”.
وجسّدَ الفنانُ “سلاَّم” عمليةَ القدسِ في جبلِ المُكبِّرِ؛ فأبدعَ في تشكيلِ الأعوادِ بطريقةٍ فنيةٍ؛ يحكي فيها تفاصيلَ الحدَثِ؛ لتبقَى شاهدةً على بطولةٍ لم تُغيِّبْها السُنون.
وتطرّقَ “سلاَّم” بفنِّه إلى القضايا المجتمعيةِ منها: البطالةُ والإهمالُ في المستشفياتِ، و تطرّقَ إلى المناسباتِ الدينيةِ كالأعيادِ، و قضايا سياسيةٍ عربيةٍ كالصراعِ على السُلطة .
ويطمحُ “سلام” للمشاركةِ في مَعارضَ محليةٍ ودوليةٍ؛ يستطيعُ من خلالِها عرْضَ القضيةِ الفلسطينيةِ بأبسطِ الطرُق، وإظهارَ معاناةِ الشعبِ الفلسطينيّ من حصارٍ، وإغلاقٍ للمعابرِ، ومنعٍ للتحويلاتِ العلاجيةِ… وغيرِها من القضايا المفصليةِ التي تعبّرُ عن واقعِ الغزيّين.
تحديات
ويواجِهُ “سلام” مشكلةً في المشاركةِ في المعارضِ المحليةِ التي تُقامُ؛ حيثُ يُطلبُ منه المشاركةُ بعَشرِ صوَرٍ و طباعتِها؛ وذلك يتطلّبُ منه مبلغاً مالياً كبيراً لا يستطيعُ تَحمُّلَه؛ في ظِلِّ عدمِ حصولِه على فرصةِ عملٍ، و في ظِلِّ عدمِ وجودِ حاضنةٍ ثقافيةٍ و فنيةٍ؛ تَجمعُ شَتاتَ الفنانينَ، وتدعمُ طموحاتِهم و لو بالقدْرِ القليلِ؛ الأمرُ الذي يجعلُ المشارَكةَ في أيِّ معرضٍ أشبَهَ بالمستحيلُ”.
ويختتمُ “سلاَّم” حديثَه بالقولِ:” رغمَ تلكَ الصعابِ؛ إلاّ أنني لن أستسلمَ.. لن أقِفَ عندَ هذا الحدِّ من العملِ؛ بل سأعملَ جاهداً على هذه الموهبةِ لإيصالِ معاناةِ سكانِ قطاعِ غزةَ ، وسأُعِدَّ قصصاً كاملةً ، عن طريقِ الصوَرِ والفيديو خلالَ الفتراتِ القادمة .
ويعتمدُ “سلام” على مواقعِ التواصلِ الاجتماعيّ؛ لنشرِ أعمالِه من خلالِ صفحتِه عبَر (الفيسبوك، والانستجرام، وتويتر) ليوصلَ فنَّه إلى الجمهور.
في قطاعِ غزةَ الأفكارُ الإبداعيةُ، والمشاريعُ المتميزةٌ؛ لم تَنضَبْ؛ لكنها لا تجدُ حاضنةً تَلمُّ شتاتَها مَحلياً أو دولياً ، وتعملُ على دعمِها في سبيلِ استمرارِها، فالحصارُ أثّرَ على شتَّى مناحي الحياةِ؛ بما فيها الحياةُ الثقافيةُ و الفنيةُ؛ التي تُعَدُّ ترَفاً في ظِلِّ انعدامِ الاحتياجاتِ الأساسيةِ للفلسطينيينَ، بما فيها الغذاءُ و الدواء.