كتاب الثريا

لِمَ نستغربُ فقدانَ “مهند” وهدمَ بنيانِه وكيانِه؟

محمد شفيق السرحي “معلم فلسطيني”

ضجّتْ مواقعُ التواصلِ الاجتماعي قبلَ أيامٍ بالحديثِ عن الشابِّ “مهند يونس” وقصتِه المبكيةِ المؤثرةِ، وما حصلَ من تخلُّصِه من إشكالاتِه وهمومِه، عبرَ “الانتحار “، والأصلُ أنّ الشابَّ قد أفضَى إلى ربِّه، ورحمةُ اللهِ واسعةٌ، ومغفرتُه عظيمةٌ، فنسألُ اللهَ العليَّ القديرَ أنْ يرحمَه، وأنْ يغفرَ له، وأنْ يشملَه بعَفوِه وكرَمه.

المُلفتُ للانتباهِ في قصةِ الشابِّ المبدعِ “مهند” , والتي تُدمي القلبَ فعلاً ؛هي سلسةُ الهمومِ والغمومِ , والقضايا التي دفعتهُ لسلوكِ هذا الطريقِ للخلاصِ مما هو فيه , كما وردَ عبرَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي , والأخذُ والردُّ من الأطرافِ المَعنيةِ , وحديثُ النشطاءِ, والسجالاتُ التي دارت في إلقاءِ اللومِ على هذا الطرَفِ أو ذاك , وخاصةً أنّ “مهند” ذلك الشابَّ الوسيمَ الرصينَ , كان ضحيةً لحالةٍ من كثيرٍ من حالاتِ الطلاقِ في المجتمعِ الفلسطيني , والذي كما سائرِ المجتمعاتِ ؛ يتعرضُ لمِثلِ هذه الحالةِ , من انتهاءِ العلاقةِ الزوجيةِ الأُسريةِ , لإشكالاتٍ تتهدِّدُه , وقضايا تنتابُه , مع اعتبارِ خصوصيةِ المجتمعِ الغزي ؛ الذي يعاني سلسلةً طويلةً من الأزماتِ التي لا تنتهي ؛ بفعلِ عواملَ متعدّدةٍ , وعلى رأسِها الجانبُ السياسيّ و الاقتصاديّ والاجتماعي ” القبلي , والطبقي ” , وغير ذلك .

لستُ بصَددِ الحديثِ عن تفصيلاتِ قصةِ الشابِّ المؤسفةِ، والتي استرعتْ وتسترعي الكثيرينَ حقيقةً، وجوانبِها المتعددةِ والكبيرةِ، لكنْ طرَقَ عقلي السؤالُ، وأنا أُتابعُ تفاصيلَ هذه القصةِ المؤلمةِ، وخاصةً الحديثَ عن جذورِها الكامنةِ في الطلاقِ، والافتراقِ ما بين الوالدِ والوالدةِ، هل يمكنُ للطلاقِ بتبعاتِه ” والذي هو أبغضُ الحلالِ عند اللهِ “، أنْ يدفعَ شاباً عشرينياً رائعاً متميزاً إلى الانتحارِ وقتلِ نفسِه؟!

وردَ في سورةِ الطلاقِ قولُه تبارك وتعالى : ” وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا” . وقد كان السياقُ الكريمُ في سورةِ الطلاقِ يتحدثُ عن حلِّ العلاقةِ الزوجيةِ , وحقوقِ الزوجةِ بعدَ الطلاقِ “؛ كَحلٍّ أخيرٍ لاستحالةِ الحياةِ الزوجيةِ بين الطرفينِ ” , والحديثُ عن عدّةِ المطلقةِ وأنواعِها , ثُم تنتقلُ السورةُ الكريمةِ بعدَ هذا كلِّه للحديثِ عن هلاكِ القرى , وضياعِ الأممِ , وعواقبِ الخاسرينَ , والوعيدِ والحسابِ الشديدِ للقرى التي عتتْ عن أمرِ ربِّها ورسله , وهكذا .

إذن هناك ارتباطٌ ما بينَ الآياتِ من بدايةِ السورةِ إلى هذا المَقطعِ الكريمِ من السورةِ، أو بصيغةٍ أخرى: ” ما العلاقةُ بين الطلاقِ ” حلِّ قيدِ الزوجيةِ ” وما بين هلاكِ الأممِ وضياعِها وخسرانها؟

قال العلماءُ ما معناه: لَمّا كان الطلاقُ وعواقبُه يقودُ إلى التفككِ الأُسري، والانحلالِ الأخلاقي، وغيابِ الإيمانِ والقرآن ” إلا ما رحمَ ربي “، وضياعِ الأبناءِ والبناتِ، الذين هم لَبِناتُ المجتمعِ؛ بحيثُ ينشأُ كلُّ واحدٍ منهم بعيدًا عن الحِضنِ التربويّ الأساسِ، في حالةٍ تكامليةٍ ما بينَ الأبِ والأمِّ، والأدوارِ المنوطةِ بكلِّ واحدٍ تُجاهَ أبنائه، كان مقدِّمةً لدمارِ وهلاكِ الأممِ، وخسرانِ القرى والجماعات.

الطلاقُ يعني هدمَ الركنِ الأساسِ للمجتمعِ؛ ثُم للأُمةِ بأسرِها، ولذلك ضيّقَ الشارعُ الحكيمُ في أسبابِه، وتوَسّعَ علماءُ الشريعةِ في تفصيلاتِه وصيَغِه وأحكامِه؛ حفاظاً على البيتِ والأسرةِ المسلمةِ، بالإضافةِ إلى الحثِّ على الزواجِ، وتيسيرِ أسبابِه ومقدماتِه، لإنشاءِ أسرةٍ مسلمةٍ أساسُها التقوى، والبناءُ المتينُ القائمُ على المحبةِ والمودةِ، والرعايةِ لكُلِّ أطرافِه ونتاجِه ” الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.

كانت آخِرُ الإحصاءاتِ الصادرةِ عن المجلسِ الأعلى للقضاءِ الشرعي بغزةَ  تتحدثُ عن أنّ عددَ حالاتِ الطلاقِ بلغَ عامَ( 2016) حوالي (3.188) حالةً بنسبةٍ إلى الزواجِ (16.6%)؛ وهي نسبةٌ أعلَى من العامِ الماضي؛ إذ بلغتْ نسبةُ الطلاقِ للعامِ 2015 (14.6%)؛ بواقعِ( 2627) حالةَ طلاقٍ، أي بفارقِ(561) حالةَ طلاقٍ زائدة، وعليه يكونُ هناك ارتفاعٌ في نسبةِ الطلاقِ( 2% )مقارنةً بالعامِ الماضي، وأنّ النسبةَ الأكبرَ من حالاتِ الطلاقِ كانت قبلَ الدخولِ والخلوةِ الشرعيةِ؛ إذ بلغتْ الحالاتُ (1374) حالةَ طلاقٍ، أي ما نسبتُه  %43.1

تعطيكَ هذه الإحصاءاتُ صورةً واقعيةً عن حالةِ المجتمعِ الفلسطينيّ في غزة، وكمِّ التراكماتِ الاجتماعيةِ السيئةِ , وتعدادِ العواملِ المتشابكةِ التي تتسببُ في تشكيلِ الظاهرةِ , وفي حالِ عدمِ الاستدراكِ والعلاجِ , سيَخرجُ لنا بنيانٌ مهدومٌ خاوٍ, ” فالإنسانُ هو بنيانُ اللهِ المتينُ “, ممّن يشكّلونَ نتاجاً صادماً  لحالةِ جهلِ الأزواجِ الشابةِ بتبعاتِ وأعباءِ الأسرةِ , وغيابِ الوعيِ في التعاملِ الاجتماعيّ داخلَ الأسرةِ ورعايتِها الشموليةِ, بالإضافةِ إلى عواملِ السياسةِ والاقتصادِ والاجتماعِ, التي تُعدُّ مسؤوليةَ القادةِ والاقتصاديينَ  , والمُصلحينَ الشرعيينَ  و الاجتماعيين .

خلاصةُ القولِ: ووِفقَ سورة الطلاق؛ إنّ الارتباطَ قويٌّ وواضحٌ بينَ عذاباتِ القُرى والأممِ وخسرانِها، وعلى قمّةِ هذا الخسرانِ والعذاباتِ، فقدانُ الأعمدةِ والأركانِ، وهدْمُ البنيانِ، من شبابِ الأُمةِ والمجتمعِ ورجالاتِه، الذين هم قوتُه وركيزتُه الأساسيةُ.فإذا كان الطلاقُ يهدِمُ أُممَاً وجماعاتٍ، ويقوّضُ بنياناً وأركاناً؛ فلا نستغربُ فقدانَ مهند”، وهدمَ بنيانِه وكيانِه . ”   

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى