الصداقةُ بين الآباءِ والأبناءِ طوقُ النجاةِ من إشكالاتِ المراهقةِ

تحقيق :ديانا المغربي
تدورُ علاقةُ المراهقين بالأهالي في صراعٍ مريرٍ من أجل الاستقلالِ، على الرغم من أنّ حلولَ هذا الصراعِ موجودةٌ ومجرّبةٌ، لكنْ ضمنَ معاييرَ محددةٍ، أبرزُها صداقةُ الآباءِ للأبناء عبرَ الحوارِ المفتوحِ، الذي تحدِّدُه الضوابطُ والحدودُ في علاقةِ أخوةٍ تجمعُ بينَ الأبِ وابنِه المراهقِ ، تزيلُ الحاجزَ الذي قد ينشأ في فترةِ المراهقةِ ،و تدعمُ العلاقاتِ الأسريةَ، وتساعدُ الشبابَ على تكوين شخصيةٍ سليمةٍ إيجابيةٍ، في مرحلةٍ تملأُها الشوائبُ والتجاربُ.. لدرجةٍ يمكنُها أنْ تحدِّدَ شكلَ الحياة .
فما هو مقدارُ هذه الصداقة ؟ هل الصداقةُ تعني أنْ يتركَ الأبُ الحبلَ على الغاربِ ؟ومتى تصبحُ صداقةُ الأبناء عبئاً على أبوَيهم؟.
أبو محمود عفانة “40عاماً ” مدرّس رياضياتٍ، لديه ثلاثةُ أبناء في سنِّ المراهقة يقول لـ” السعادة “:” منذ دخولِ ابني الأكبر سنَّ المراهقةِ؛ وأنا أعيشُ في دوامةٍ من الخوفِ الشديدِ، ازدادتْ حدّتُها بعد أنْ دخل أخواهُ -الأصغرُ منه- نفسَ المرحلةِ، فأصبح في بيتي ثلاثةُ شبانٍ، لكلٍّ منهم طريقتُه الخاصةُ بالتفكيرِ، وقناعتُه المختلفة .
ويضيفُ: طبيعتي كمُدرسٍ انعكستْ على أسلوبِ تربيتي لأبنائي، مبنيةٌ على معطياتٍ ونتائجَ وبراهينَ، فشعرتُ أني بعيدٌ جداً عنهم، وأنّ بُعدي هذا هو سببُ دوامةِ الخوفِ والقلقِ التي أعيشُها، فبحثتُ عن طريقةٍ تكونُ ملاذاً آمِناً لي ولأبنائي.. فكانت المَثلَ القائلَ ” إنْ كِبرْ ابنَك خاويه ” أصبحنا أصدقاءً.. نتحدثُ دومًا، نعملُ بنَفسِ الرجلِ الواحدِ، يحدّثونني عن كل ما يدورُ في قلوبِهم، يطلبون مساعدتي.. يتفهمون رغبتي في أني أريدُهم أبناءً أسوياءَ، يحرصون على إرضائي.
يتابعُ: مع الوقتِ بدأتُ أشعرُ أنهم يفضّلون مجالستي على مجالسةِ أصدقائهم، وأصبحتُ أتعاملُ معهم بطريقةِ من “رجلٍ إلى رجلٍ” على الرغم من صغرِ سنِّهم ، لقد بات حديثُهم وجلستُهم الجزءَ المحبَّبَ من برنامجي اليومي.. ابني الأكبرُ غادرَ المراهقةَ دونَ أيِّ مشاكلَ، لقد صنعتْ صداقتي وحواري معه منه رجلاً راشداً ومتفهِماً.
طابعٌ خاصٌّ
بينما يقول سعيد أبو ريالة “45 عاماً” موظفٌ في أحدِ المؤسساتِ الخاصة:” إنّ الأبناءَ لا يفهمون غايةَ الآباءِ من الصداقةِ، وهي طريقةٌ مثمرةٌ على صعيد علاقةِ الآباءِ بالأبناء، ففي بدايةِ مراهقةِ ابني “علاء”؛ حاولتُ تغييرَ معاملتي تُجاهَه، واتبعتُ السبُلَ الحديثةَ بالتربيةِ من خلال الحوارِ الهادئ، والمناقشةِ والإقناع، إلا أني شعرتُ بعد فترةٍ من الزمن؛ أنّ ابني يعدُّ هذا الأسلوبَ ضعفاً في شخصيتي!، وأنى أحاورُه وأصادقُه لأنني غير قادرٍ على إلزامِه!.
ويضيفُ: بدأتُ في توضيحِ مقصدي من التعاملِ بهذه الطريقةِ ، ومع الوقتِ أصبحتْ لعلاقتِنا طابعها الخاص المَبني على الاحترامِ المتبادلِ، والتواصلِ الدائم ،والتي أستطيعُ القولَ من خلالها؛ أنّ ابني قد عاش مراهقتَه بشكلٍ سليمٍ، انعكسَ على حياتِه المستقبليةِ.
في حين يرى أبو أدهم علوان “42 عاماً “؛ أنّ معاملةَ الأبناءِ في سنِّ المراهقةِ لابدَّ أنْ تجمعَ بين اللينِ والشِّدةِ، والحوارِ و إصدارِ الأوامرِ، و التهاونِ وعدمِ التنازلِ، و المؤاخاةِ وعلاقةِ الأبِ الصارمةِ ، حتى يستطيعَ الأبُ التواصلَ مع أبنائه بطريقةٍ صحيحةٍ، مع المحافظةِ على مكانتِه وشخصيتِه مع أبنائه، ففي بدايةِ مراهقةِ أبنائي؛ واجهتُ الكثيرَ من المتاعبِ، لكنْ مع الوقتِ اعتادوا على أسلوبي .
نظرةٌ خاطئٌة
من جهتِه يقولُ الأخصائي إسماعيل أبو ركاب؛ أنّ مرحلةَ المراهقةِ وِلادةٌ جديدةٌ للأبناءِ، يجبُ أنْ نتعاملَ معها بإيجابيةٍ؛ حتى يكونَ المراهقُ متوافقاً وغيرَ عدوانيّ أو انسحابيّ، فقد أكّدتْ الدراساتُ العلميةُ أنّ (80%) من مشاكلِ المراهقين؛ هي مشاكلُ اجتماعيةٌ تتمحورُ جميعُها في النظرة الخاطئةِ من الأهلِ للأبناءِ، والافتراضِ بأنّ المراهقينَ متمرّدونَ بطبعِهم، ويجبُ كبحُ جماحِ تمرُّدِهم، ولحلِّ هذه المشكلةِ؛ قد يكونُ من الحكمةِ في المَثلِ الشعبي “إذا كِبر ابنك خاويه” فهي أفضلُ طريقةٍ للتعاملِ مع المراهقين، وإخراجِهم من حالة اللامبالاةِ، ودفعِهم إلى المسئوليةِ والالتزامِ ..
ويشدّدُ على أنه يجبُ على الآباء أنْ يدركوا طبيعةَ المرحلة، وأنْ يغيّروا من طريقةِ معاملتِهم لأبنائهم، ليتحولَ الابنُ إلى منزلةِ الأخِ، فيُعامَلُ على أنه شخصيةٌ ناضجةٌ، لكنّ الحقيقةَ تقولُ “أنّ العديدَ من الآباءِ يُصِرّونَ على معاملةِ الأبناءِ؛ على أنهم ما زالوا أطفالاً يجبُ اتخاذُ القراراتِ نيابةً عنهم، كونَهم لا يَعرفونَ مصلحتَهم.
ويضيفُ لـ”السعادة” :الظروفُ التي نعيشُها اليومَ، تتطلبُ نوعاً من أنواع الانفتاحِ في التربية، والتعاونِ والتفاهمِ لضبطِ سلوكياتِ الأبناء، أو يحدثُ نوعٌ من العنادِ، والإصرارِ من جانبِهم على فرْضِ آرائهم؛ حتى لو كانت خاطئةً لمجردِ أنهم يريدون إثباتَ شخصيتِهم المستقلةِ، والتمرُّدَ على وصايةِ الآباء. مؤكّداً أنّ صفةَ اللامبالاة التي يوصَمُ بها جيلُ المراهقينَ، تنبثقُ عن عدمِ اكتراثِ الأهلِ، وعدمِ الإصغاءِ، وعدمِ منحِهم التقديرَ والحبَّ، والاعترافَ الكاملَ بوجودِهم ورأيِّهم، وتبنّي أفكارِهم، وخاصةً في ظِل وجودِ آخَرينَ يُصغونَ لهم: كالأصدقاءِ أو وسائلِ التكنولوجيا، منوِّهاً إلى أنّ كثيراً من الأهلِ يمنحونَ أبناءَهم الاهتمامَ السلبيّ فقط عندَ ارتكابِهم الأخطاءَ، عن طريقِ العقابِ والتأنيبِ والتوبيخِ، أو حتى العقابِ الجسدي.
حدودٌ وقيودٌ
ويتابعُ حديثه : من الصعب إلغاءُ الحدودِ والقيودِ نهائياً، لذا يجبُ أنْ تتراوحَ العلاقةُ بين اللينِ والقسوةِ ، ولابدّ أنْ تكونَ ضِمنَ خطواتٍ مدروسةٍ، إذ أنّ هذه العلاقةَ بحاجةٍ إلى حوارٍ صريحٍ، ينطلقُ من حكمةٍ وعقلانيةٍ، حتى تأتيَ بنتائجَ إيجابيةٍ تناسبُ طموحَ الوالدينِ، واحتياجاتِ الأبناءِ، وخصوصاً أنّ وسائلَ الإعلامِ باتت تؤثّرُ على الشابِ أكثرَ من تأثيرِ مؤسساتِ التربيةِ الأخرى. .
ويركّزُ “أبو ركاب” على ضرورةِ التواصلِ الإيجابي، و سماعِ أفكارِ وآراءِ الأبناءِ، بل إقناعِهم بأنّ الحوارَ طريقةٌ إيجابيةٌ لحلِّ كافةِ المشاكلِ في جوِّ الأسرةِ؛ ليشعرَ الابنُ بأنه لا يمكنُ أنْ يستغنيَ عن أسرتِه التي تبقى الملاذَ الآخِرَ له؛ عندما تعترضُه أيُّ مشكلةٍ.
من جهتِها أوضحتْ دكتورةُ علم النفسِ التربوي “رائدة أبو عبيد” بجامعةِ الأقصى، إلى أنّ الاختلافَ الفكري بين الجيلينِ يلعبُ دوراً كبيراً في العلاقاتِ التي تَجمعُ بينهما، فلِكُل جيلٍ قناعتُه وطريقةُ تفكيرِه الخاصةُ، وطموحاتُه التي تختلفُ عما يخطِّطُه له الجيلُ الآخَرُ، فالشابُّ يطمحُ أنْ يصنعَ مستقبلَه بنفسِه، بما يضمنُ له راحةً داخليةً، وشعوراً بأنه مالكُ القرار، الأمرُ الذي يتعارضُ بالعادةِ مع رغبةِ الوالدين؛ اللذين يطمحانِ لأنْ يبقى الشابُّ تحت جناحَيهما.. انطلاقاً من حبِّهما وحرصِهما عليه، وكثيراً ما تنشبُ الخلافاتُ بسببِ تعارضِ الآراءِ، ورغبةِ كلِّ واحدٍ منهما في التعبيرِ عن رغباتِه بطريقتِه الخاصةِ.
الحلُّ بالصداقة
وتتابعُ : الحياةُ اليومَ تفرضُ علينا بعضَ الضوابطِ لهذه العلاقةِ الأبويةِ الأخوية، فلا يمكنُ للأهلِ أنْ يتركوا “الحبلَ على الغارب”فمن الضروري التدخُلُ لتقويمِ الأبناء، وإرشادِهم إلى السلوكِ الصحيحِ، ولكنْ لا يجبُ أنْ يتمَّ ذلك بأسلوبِ فرضِ الرأي، وإعطاءِ الأوامرِ، خصوصاً في المراحل العمريةِ التي يريدُ الشابُّ أنْ يشعرَ فيها باستقلاليتِه ،خصوصاً أنّ الابنَ يمكنُ أنْ يتعرضَ لمضايقاتٍ من أصحابِه؛ إذا ظهرَ أمامَهم بأنه ضعيفُ الشخصيةِ، و ما زال يخشى والدَه.
تنصحُ “أبو عبيد” الآباءَ؛ بمحاولةِ الاستماعِ لآراءِ أبنائهم، ومحاولةِ مدِّ جسورِ الثقةِ معهم،وتعزيزِ ثقتِهم بأنفسِهم، حتى تنموَ بداخلِهم رقابةُ الذاتيةِ،التي ستُصحِّحُ فيما بعدُ من سلوكياتِهم. أمّا أسلوبُ الرقابةِ الشديدةِ، وفرضُ الرأيِّ فلن يُثمرَ إلا عن أبناءٍ ضعفاءَ، مُعتمدينَ على الأهلِ، و غيرِ قادرينَ على اتخاذِ قراراتِهم ،منوهةًً إلى أنّ فقدانَ الابنِ الثقةَ بوالدِه؛ تجعلُه يبحثُ عن مَن يعطيهِ إياها، فيصبحُ فريسةً سهلةً لأصدقاءِ السوء، الذين يجدونَ فيه تربةً خصبةً لتقبُّلِ العاداتِ السيئةِ، لمجردِ الرغبةِ في الشعورِ بالاستقلالِ عن سلطةِ الأبِ. مشدِّدةً على ضرورةِ أنْ يكونَ الأهلُ قدوةً للأبناءِ، من خلال تصرفاتِهم، لتحصينِ الابنِ ضد أيِّ أفكارٍ أو سلوكٍ غريبٍ،خصوصاً وأننا نعيشُ في عصرٍ تتزايدُ فيه المُغرياتُ، وتتنوعُ فيه الثقافاتُ التي يمكنُ أنْ تؤدّيَ إلى الانحلالِ الخُلُقي ، مؤكّدةً أنّ أفضلَ أسلوبٍ للتربيةِ؛ هو أسلوبُ مصادقةِ الأبناء، ومَنحِهم الثقةَ في تصرفاتِهم، مع هامشٍ للحريةِ .