كتاب الثريا

ثلجٌ.. وكثيرٌ من قلَقٍ

ثلجٌ.. وكثيرٌ من قلَقٍ

فيحاء شلش ..

صورٌ متعدّدةٌ رسمَها المنخفضُ الجويّ القطبيّ في مدُنِ الضفةِ الغربيةِ؛ أطفالٌ يلهونَ في الثلوجِ، وآخَرون يفرحونَ بتساقُطِه من خلفِ نوافذِ منازلِهم، عائلاتٌ تجلسُ أمامَ المدفأةِ، وتحتسي الشايَ مع قليلٍ من الكعكِ المنزليّ، وتتبادلُ النّكاتِ حولَ ذكرياتِ الشتاءِ، وتصرُّفاتِ الآخَرين خلالَه.

الصورةُ جميلةٌ… ولكنْ ليس بما يكفي! فهناك في القدسِ حكايةٌ أخرى… قد يكونُ الثلجُ أحلَى ما فيها، فمع بدءِ تساقطِ أولى زخّاتِ الثلوجِ والأمطارِ يومَ الخميسِ الفائتِ، ومع الفرحةِ الغامرةِ التي عمّتْ الكثيرينَ؛ إلاّ أنّ القدسَ كانت على موعدٍ حزينٍ، كيف لا… والأنفاقُ تنخرُ جذورَها وتحوّلُ أسفلَها إلى غابةٍ من الحفرياتِ؟!

في أولِ أيامِ المنخفضِ؛ بدأتْ الملامحُ التي غرستْها يدُ الاحتلالِ وأذرُعُه المختلفةُ؛ تطفو على سطحِ كلِّ شيءٍ، فسَبعُ أشجارٍ في باحاتِ الأقصى سقطتْ، واقتُلعتْ جذورُها… قد يقولُ قائلٌ: ذلكَ بفعلِ الرياحِ الشديدةِ… ولكنْ لا؛ قد تفعلُ الرياحُ هذا الاقتلاعَ بشجرةٍ أو اثنتينِ، وفي أماكنَ أخرى، ولكنْ أنْ تَقتلعَ سبعَ أشجارٍ في مكانٍ واحدٍ؛  كثيراً ما نخرتْ أسفلَه الأنفاقُ، فهو أمرٌ يدعو لكثيرٍ من الغضبِ.

في القدسِ لا تقتصرُ المنخفضاتُ الجويةُ على الفرحةِ بتساقطِ الثلوجِ، وانتظارِ تراكمِها؛ رغمَ أنّ المشهدَ يغسلُ الكثيرَ من الألمِ والجراحِ التي خلّفتْها قلوبٌ سوداءُ يقودُها المحتلُّ، فهناك أمرٌ آخَرُ مُحزِنٌ يسيطرُ على مشاعرِ المقدسيينَ، وهو الخوفُ من انهيارِ منازلِهم في أيِّ لحظةٍ.

أسبابٌ عدّة تقفُ لتدعمَ إمكانيةَ انهيارِ المنازلِ هناكَ، أو تشقُّقِها أثناءَ البردِ والمطرِ، أولُها: أنّ الاحتلالَ ينفّذُ “متاهة الأنفاق” تحتَ البلداتِ المقدسيةِ، وخاصةً سلوان؛ كي يستطيعَ الوصولَ إلى المسجدِ الأقصى المباركِ من خلالِها، شبكاتٌ وغرفٌ وقاعاتٌ تكادُ تكونُ أقربَ إلى الخيالِ في حفرياتِها، تلك تُسبّبُ انهيارَ المنازلِ والشوارعِ والأبنيةِ والأسوارِ والأتربةِ، وتعدُّ المصدرَ الرئيسَ للقلقِ.

الأمرُ الثاني: أنّ منازلَ المقدسيينَ قديمةٌ، يعيشونَ فيها توارثاً عن أجدادِهم؛ لأنّ المنزلَ في القدسِ؛ هو كنزٌ كبيرٌ؛ لا يعرفُ معناهُ إلا من عاشَ فيها، وتلك البيوتُ الحجريةُ ذاتُ البناءِ القديمِ الجميلِ؛ تحتاجُ بينَ الحينِ والآخَرِ إلى ترميمٍ كي تُعادَ أصالتُها، أعمالُ ترميمٍ ليست معقّدةً؛ بل هي طلاءُ جدرانٍ، ووضعُ أسمنت في بعضِ الأماكنِ؛ لمنعِ تسرُّبِ المياهِ وتدفُّقِها إلى المنزلِ.

قضيةُ الترميمِ حين تُذكَرُ “اسماً فقط” تقلّبُ الجراحَ على المقدسيينَ، فهُم الوحيدونَ في كلِّ العالمِ، وبينَ كلِّ البشرِ على الأرضِ؛ ممنوعونَ من ترميمِ منازلِهم…! نَعم هذه هي القضيةُ باختصارٍ، يمنعُ عليهم ترميمُ منازلِهم؛ كي تتشقّقَ وتنهارَ وتتحولَ إلى مجردِ أبنيةٍ متآكِلةٍ؛ يضطّرُ أصحابُها إلى الرحيلِ منها.

هذه القضيةُ خطيرةٌ بما يكفي؛ لتجعلَ الضميرَ الحيَّ لدَى أيِّ إنسانٍ يشعرُ بالانتماءِ للقدسِ وفلسطينَ، بل وكلِّ العالمِ الإسلاميّ يستيقظُ، قضيةٌ تدقُّ ناقوسَ الخطرِ حولَ الواقعِ المُزريِّ الذي يعيشُه أيُّ فلسطينيٍّ هناك.

أمورٌ أخرى كثيرةٌ؛ يعرفُها أهالي بيتِ المقدسِ أكثرَ من غيرِهم؛ تجعلُ فرحةَ الشتاءِ تتبدّدُ، فمثلاً يمنعُ عليهم أنْ يجدِّدوا وضعَ سخّاناتِ المياهِ فوقَ أسطحِ منازلِهم، هل يوجدُ في العالمِ من يمنعُ ذلك؟! قد يقولُ البعضُ إنه احتلالٌ ظالمٌ، ونتفِقُ تماماً، ولكنّ هذا ما يمارسُه منذُ” 67″ عاماً، ولا أحدَ يتدخلُ لوقفِ المعاناةِ.

الأمرُ الضروريُّ هنا؛ أنّ كلَّ تلكَ الحُزمِ من المشاكلِ التي يصنعُها الاحتلالُ وليس الشتاءُ؛ هي أمورٌ يعيشُها المقدسيونَ منذُ عقودٍ طويلةٍ، ولكنها لم تَخرجُ لمسامعِ العالمِ! أو حتى بقيةِ الفلسطينيينَ؛ إلاّ منذُ بضعةِ أعوامٍ، فالمقدسيونَ كانوا طوالَ هذه السنواتِ يتألمونَ بصمتٍ مدعومٍ بضميرٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ، وحتى فلسطينيٍّ ميّتٍ!!.

ماذا فعلَ أصحابُ الأموالِ والدولاراتِ لأجلِ هذه المعاناةِ؟ كيف بذلوا جهداً لإنهائها؟ وهل يطمحونَ فعلاً لإنهائها…؟ لماذا يعدُّ هذا النوعُ من الألمِ المقدسيِّ غيرَ جديرٍ بالاهتمامِ؟ لماذا يفرحُ الجميعُ بالشتاءِ؟ ويبقى الأهلُ هناك يعانونَ ويتحسَّرون؟

أتمنّى أنْ تكونَ الصورةُ قد وصلتْ للكثيرينَ، فهناك في القدسِ -التي نطالبُها دوماً بالصمودِ- مقوّماتٌ غيرُ موجودةٍ أصلاً للثباتِ، ولكنّ أهلَها يصنعونَ تحدِّياً من نوعٍ آخَرَ، ويكابرونَ للبقاءِ على قيدِ الحياةِ، ولو فنيتْ منازلُهم وممتلكاتُهم وأموالُهم، فهل أعددْنا للقدسِ شيئاً من أموالنا؟ وهل نحن على قدْرِ المسؤوليةِ لنطالبَ المقدسيينَ بمزيدٍ من الصمودِ؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى