غير مصنف

العنوسة أزمة مجتمعية تترك أثرها على الفتيات

تحقيق- أمل زياد عيد

تخطّتْ “سناء” الثلاثين من عمرِها دون زواجٍ، حيث أنها ما زالت آنسةً في بيت أهلِها ، ولكنْ ما تتحمّله من ضغوطٍ وعقوباتٍ بسببِ تأخُرِها في الزواجِ؛ لا يتحمّلُه بشرٌ -على حدِّ وصفِها- فسؤال ” لماذا لم تتزوَّجي حتى الآن “؟ يلاحقُها في كلِّ مكان ، ونظراتُ الناس التي تَغلبُ عليها نظرةُ الشفقةِ والاستغرابِ من وقْفِ حالِها ، إضافةً إلى ما تواجِهُه من تلميحاتٍ، من قِبل أشقائها ووالديها، وكأنّ الزواجَ بيدِها هي، لا قِسمةً ونصيباً من عندِ الله ، “سناء” فتاةٌ من مئاتِ الفتياتِ اللاتي يواجِهنَ نفسَ المعاناةِ والصعوباتِ في حياتِهنّ العائليةِ، لنفسِ السببِ.
“السعادة” في تحقيقها التالي؛ تتحدثُ عن الفتاة العازبةِ، وما تواجِهُه من ضغوطٍ ومشاكلَ في بيت عائلتها ، فكيف تتعاملُ مع مِثلِ هذه الضغوط؟ وما هو مبرِّرُ الأهلِ في ممارستها؟ وما هو تأثيرُ ذلك في الفتاة نفسِها؟

بيان “30 عاماً” حاصلةٌ على دبلوم في المِهن الصحيةِ، ولكنها لم تحظَ بفرصةِ عملٍ حتى اليوم، وتعاني من ضغوطٍ كثيرة ، من الأبِ والأمِّ تشتكي، ومن أشقائها تعاني، فكلُّ واحدٍ منهم له مُهمةٌ معيّنة يقوم بها.. فوالدُها كالمحقِّقِ، وشقيقُها كحارسِها الشخصي، وتقول:” يمنعونني من الخروجِ وحدي، فيجبُ أنْ يكونَ معي أحدُ أشقائي للحراسةِ، وإنْ تأخرتُ لظرفٍ ما؛ تقوم الدنيا ولا تقعد ، ناهيك عن التحقيقِ الذي أدخلُ به مع والدي ، وغيرِ هذا أنه لا يصدِّقُني.. ويحقِّقُ مع من يكونُ معي؛ حتى يتأكدَ من ما أقولُه، فهو كالمُحقّقِ، وأمي مساعدتُه ، وواحدُ من أشقائي الحارسُ الشخصي ، وآخَرُ المراقبُ لي، ولكلِّ تحرُّكاتي داخلَ البيت “.

خادمةٌ في البيت :

أمّا ما تتعرضُ له يسرى “33 عاماً “- حاصلةٌ على شهادة الثانويةِ العامة، ولم تلتحقْ للتعليمِ الجامعيّ لظروفٍ معيّنةٍ- من ضغوطاتٍ أسريةٍ؛ فهي لا تُوصفُ على حسبِ تعبيرِها! فهي لا ترى نفسَها إلا خادمةً لزوجاتِ أشقائها وأبنائهم، وتقول :” أتمنّى من اللهِ أنْ يبعثَ لي بابنِ الحلالِ، بأقربِ وقتٍ ممكنٍ؛ لأتخلصَ من كلِّ ما أنا فيه ، فأنا في البيتِ فقط خادمةٌ لزوجاتِ أخوتي ، فهنّ لا يلفظنَ اسمي إلا لطلبٍ لهنّ، وخدمةٍ يريدنَها ” يسرى، خلّي هالولد عندك، لغاية ما أرجع ” وتذهبُ وتنسى نفسَها ” يسرى، ساعديني بس في تنظيفِ المطبخ ” وتتركُ كلَّ عملِ البيتِ فوق رأسي، بحُجةِ ابنها يبكي أو مريض”.

حريةٌ كاملةٌ :

الثلاثينيةُ “مريم” تختلفُ عن سابقاتها في حياتها المعيشيةِ عند أهلها، فهي كما توضّح أنها تتمتعُ بكاملِ حريتِها، دونَ أيِّ ضغوطاتٍ من أيِّ شخصٍ في عائلتها، فهم كما تبيّنُ يمنحونها كاملَ الثقةِ والحريةِ ، وإنْ كان هناك بعضُ التدخلاتِ، ولكنها بحدودٍ وتقول :” من الطبيعي أنْ يسألَني والدي وشقيقي، إلى أين تذهبين؟ ومتى ستعودين؟ ، إنْ تأخرتُ يسألوني عن سببِ التأخيرِ ، ولكنّ هذا لا يعني أنهم لا يثقونَ بي، أو أنهم يعتبروني عالةً عليهم ، بل دائماً يقدّمونَ لي كلَّ ما أريدُ ، ويَحملونَني على كفوفِ الراحة “.

من هي العازبة ؟

من جهتِه يوضّحُ الأستاذ “بسام أبو عليان”- محاضرٌ بقِسمِ علمِ الاجتماعِ في جامعةِ الأقصى- أنّ مصطلحَ العازبةِ يُستخدمُ في حديث العامةِ بحقِّ “المطلَّقة”، أمّا مصطلحُ “عنوسة” فهو أدقُ في توصيفِ الحالة، والمتداولُ في الكتاباتِ الاجتماعيةِ والنسوية ، ويَذكرُ أنّ هذا اللفظَ يُطلقُ على الجنسينِ (الشباب والفتيات) الذين تأخّروا عن سنِّ الزواجِ ، وهو ليست صفةً خاصةً بالإناث ـ كما يعتقدُ الكثيرونَ خطئا، ولكنّ المتداوَلَ في العُرفِ الاجتماعي؛ أنه يُطلَقُ على الفتاة التي تأخّرتْ في الزواجِ.

ويوضّحُ أنّ سنَّ العنوسةِ يختلفُ من مجتمعٍ لآخَرَ، بحسبِ ثقافتِه، وعاداتِه، وتقاليدِه، فمن تُعدُّ عانساً في مجتمعِنا؛ قد لا تُعدُّ كذلك في مجتمعٍ آخَرَ، ففي المجتمعِ الفلسطيني يطلَقُ لفظُ العانسِ على من طرقتْ أبوابَ الثلاثينَ ولم تتزوجْ، إذ تبيّنُ الإحصاءاتُ الفلسطينيةُ أنّ الزواجَ يتركزُ بشكلٍ كبيرٍ عند الفئةِ العمرية (25-29) عاماً؛ ثم (20-24) عاماً، وأدنَى نسبةٍ عند (45-49) عاماً.

ضغوطٌ نفسيةٌ كثيرةٌ :

ويبيّنْ أنّ الفتاةَ التي تأخرتْ في الزواج، وتخطّت سنَّ الثلاثين بالذات؛ تتعرضُ لضغوطٍ نفسيةٍ كثيرةٍ، مقارَنةً بالفتياتِ المتزوجاتِ في سنِّها، أو مقارنةً بأخواتِها، كونَ المجتمعِ الفلسطيني يوصفُ بأنه محافظٌ ، فإنهم يفضلونَ الزواجَ المبكّرَ ، فالفتاة إذا وصلتْ سناً معينةً؛ تجدُ الأسرةَ –لاسيّما الأمُ- تنظرُ لها نظرةَ شفقةٍ لأنها تعثّرتْ في الزواجِ مقارنةً بشقيقاتِها، وهناك بعضُ الأسرِ تتشدّدُ في الزواجِ؛ بأنْ تزوِّجَ الفتياتِ حسبَ الترتيبِ في الأسرةِ، فقد يتقدّمُ الخُطّابُ للابنةِ الثانيةِ و الثالثةِ، ولم يتقدّموا للأولى، وهذا يتركُ أثراً نفسياً سيئاً في نفسِها، ورُبما يزرعُ بذورَ الحقدِ بين الأخواتِ، وأحياناً بعضُ الأُسرِ المتشدّدةِ تُكرِهُ الفتاةَ على الزواجِ ممّن لا ترغبُ فيه؛ حتى تفتحَ الطريقَ لزواجِ بقيةِ أخواتِها.

ويؤكّدُ أنّ الضغوطَ التي تمارسُ ضدّ الفتاةِ؛ تنعكسُ عليها سلباً ،فإنْ تمَّ الزواجُ على أساس الترتيبِ في الأسرةِ؛ فإنه سيُنمّي بذورَ الحقدِ والخلافِ بين الأخواتِ، ويزيدُ من نظرةِ التقييدِ على حركتِها وتصرفاتِها، وفي بعض الحالاتِ تميلُ الفتاةُ إلى العزلةِ والانسحابِ الاجتماعي، وعدمِ المشاركةِ في المناسباتِ الاجتماعيةِ، وربما يكونُ ذلك أثراً عكسياً، إذ تميلُ إلى ممارسةِ العنفِ الاجتماعي والنفسي بحقِّ المحيطينَ بها.

اختلافٌ في الشخصيات :

وينوّهُ هنا إلى أنّ كل فتاةٍ تختلفُ شخصيتَها عن الأخرى، فالفتاةُ المتعلمةُ والموظفةُ؛ تتمتعُ بمساحةٍ من الحريةِ الشخصيةِ، والحركةُ أفضلُ وأوسعُ بكثيرٍ من الفتاة الأمّيةِ، أو ذاتِ التعليمِ المتدنِّي ، إذ الأولى يمكنُ أنْ تستثمرَ وقتَها في الدراسةِ أو العملِ، وهذا يساهمُ في شغلِ فراغِها، وتقويةِ شخصيتِها، وزيادةِ وعيِّها الاجتماعي، أمّا غيرُ المتعلمةِ فعلى العكسِ، فالظلمُ الاجتماعي عليها أشدُّ، كذلك التمييزُ بين الفتاةِ ذاتِ الحظِ الوافرِ من الجمالِ، مقارنةً بذاتِ الحظ الأدنَى، فالأُولى وإنْ تأخرتْ عن الزواجِ؛ فإنّ فُرصَها تكونُ أكبرَ من الثانيةِ، أمّا إنْ تزوجتْ الثانيةُ؛ فغالباً تكونُ الزيجةُ دونَ المأمولِ “كضرةٍ”، أو تتزوجُ من مُسِنٍّ، أو تتزوجُ من مريضٍ؛ لتقومَ بدورِ الممرضةِ! فهو ليس زواجاً من أجلِ الزواجِ (السكن والاستقرار)، بقدْرِ ما هو زواجٌ لأجلِ حاجةٍ في نفسِ الزوجِ.

مجتمعٌ محافظٌ :

ويقدّمُ د. عليان عدّةَ اقتراحاتٍ لتخفيفِ ظاهرةِ العنوسةِ والتأخرِ في الزواجِ في مجتمعِنا الفلسطينيّ، كتفعيلِ دورِ وسائلِ الإعلامِ لتوعيةِ المجتمعِ للحدِّ من العنوسةِ، والإشارةِ للأضرارِ المترتبةِ عليها، من خلال البرامجِ المتنوعةِ، فضلاً عن عقدِ محاضراتٍ وندواتٍ تثقيفيةٍ لذاتِ الغرضِ، وإيجادِ مؤسساتٍ تتبنّى قضايا تيسيرِ الزواجِ، حتى تخفّفَ عن كاهلِ الشبابِ بعضاً من تكاليفِ الزواجِ المرتفعةِ، وتشجيعِ مشروعاتِ الزواجِ الجماعي، وتبنّي الدعاةِ، وقادةِ الرأي، مبادراتٍ تدعو لتخفيفِ المهورِ عند تزويجِ بناتِهم، والابتعادِ عن المظاهرِ الإسرافيةِ في طقوسِ الزواجِ؛ ليكونوا قدوةً لغيرِهم، والعملِ على صياغةِ ميثاقِ شرفٍ بين الوُجهاءِ، والمخاتيرِ، يحثُّ على تخفيفِ المهورِ لترغيبِ الشبابِ في الزواجِ، والحدِّ من العنوسةِ.

مقارنة بين الجنسينِ :

من ناحيتِها تقارنُ الأخصائيةُ النفسيةُ “سمر قويدر” بين ما يتمتعُ به الشابُّ الأعزبُ، والفتاةُ العزباءُ من الحريةِ والاستقلاليةِ للشابِّ، وكمِّ المحظوراتِ والممنوعاتِ التي تحاصرُ الفتياتِ العزباواتِ، ومن هذه الضغوطِ الأُسريةِ المعاملةُ التي تتلقاها تلك الفتاةُ، حيثُ تعاني من تلك التدخلاتِ الكثيرةِ.. كخروجِ الفتاةِ، والأوقاتِ التي تخرجُ فيها وتعودُ، وتدخُلاتٍ في أشيائها الخاصةِ كالجوالِ وتفتيشِه.

وتضيف :” وهناك الكلماتُ التي تُلقى على مسامعِها، والتي تُشعِرُها بأنها أصبحت إنسانةً تمثّلُ عبءً على كاهلِ الأسرةِ، وأحياناً عندما تعيشُ الفتاةُ ضمنَ أسرةٍ يوجدُ فيها نساءٌ الإخوةِ، ويكونُ لديها السلطةُ..بينما شخصيةُ الفتاةِ تتّسِمُ بالضعفِ، فيقومون باستغلالِ تلك الفتاةِ في أعباءِ المنزلِ، وتركِ الأطفالِ لديها “.

نظرةٌ سلبيةٌ للحياةِ :

وتوضّحُ أنّ هذه الضغوطاتِ تسبّبُ الكثيرَ من المشاكلِ النفسيةِ لدى الفتاةِ؛ مِثلَ النظرةِ السلبيةِ للحياةِ، والكآبةِ والكبتِ النفسيّ والعاطفيّ، وتكونُ فتاةً مغلوبةً على أمرِها، لا تستطيعُ أنْ تحرّكَ ساكناً، وهذا أمرٌ يعودُ للأسرةِ التي تعيشُ فيها تلك الفتاةُ، ومدى تأثيرِ الضغوطِ عليها من حيثُ الشدةِ والحدّة “.

وتبيّنُ أنّ هناك اختلافاتٍ بين الأُسرِ في التعاملِ مع تلك الفتياتِ، فهناك بعضُ الأُسرِ من يقفُ بجانب الفتاةِ، ويشجّعُها ويعزِّزُ من قيمةِ وجودِها دائمً،ا وتتبنّى الحوارَ الإيجابيّ، حيث يكونُ لها حريةُ الاختيارِ في أمور حياتِها، على عكسِ الأسرِ الأخرى، ويرجعُ هذا الاختلافُ إلى التفكيرِ الذي تتبناهُ تلك الأسرةُ، ونظرتِها إلى الفتاةِ، وأيضاً البيئةِ التي تعيشُ فيها، وما تتبناهُ من عاداتٍ وتقاليدَ، ونظرتِها للفتاةِ التي تخطتْ سنَّ الثلاثينَ بدونِ زواجٍ، كذلك المستوى العِلميّ والثقافيّ الذي تحظَى به الأُسرةُ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى