كتاب الثريا

بِرّوا البَنينَ!

أ. محمد علي عوض عضوُ الاتحادِ العالميّ لعلماءِ المسلمينَ

إذا اتّفقنا أنّ “الذكوريةَ” حالةٌ؛ فسنراها يستقوي بظاهرِها و”عزِّها” الرجالُ على النساءِ، والكبارُ على الصغارِ، والمديرُ على الموظفينَ، والأعمامُ والأخوالُ على بني إخوتِهم وأخواتِهم، والجارُ المسنودُ على مكسورِ الظهرِ، والرئيسُ على المرؤوسِ، والشيخُ على المُريدينَ، والثَرِيُّ على الفقيرِ، حتى إنك ترى استطالةَ الفتاةِ بنتِ الستِّ على أخيها الذي لم يدخلْ مدرستَها بعدُ، وتريدُ أنْ ترى نفسَها عليه أمَّهما، كما لو كان في محلِّها رأى نفسَه عليه أباهما، وهكذا دواليْك.

على أنّ المشهدَ هنا إذا تعلّقَ بتعاملِ بعضِ الآباءِ مع بَنيهِم كان حالةً عجيبةً؛ إذْ رُبما لم يَفقهْ بعضُهم طبيعةَ هذه العلاقةِ المقدسةِ بين هذينِ الطرَفينِ المؤيَّدَيْن كِلَيهِما من ربِّنا تعالَى؛ ما اتّبَعا نهجَه، وأدّى كلٌّ منهما دورَه إعطاءً لواجباتٍ ونوالًا لحقوقٍ، ومن الذكوريةِ الأبويةِ هنا أنْ يستخدمَ الوالدانِ مكانَهما ومكانتَهما لِما يظُنانِ به أنهما كاهنانِ لا يُراجعانِ، وسماويانِ لا يساميانِ، كأنهما مالكا الدنيا، فلا ينتظرانِ من بَنيهِم إلّا التنفيذَ الصامتَ بالوجهِ الباسمِ على الوقتِ المُرادِ، والشكلِ والإخراجِ المقصودِ.

وبالنظرِ إليهِما تَجدُ الوالدينِ إذا خرجا من خلافاتِهما الشخصيةِ التي لا يتوَرّعانِ من إظهارِها أمامَ بَنيهِم الصغارِ، يَدخلانِ في إظهارِ معايِر بعضِهما، ويمُنّانِ كلٌّ منهُما على الآخَرِ، مُتناسِيَينِ أيامَ الجمالِ والدلالِ، وأنّ الدنيا لا تصفو بحالٍ، وأنّ الكدَرَ يجلوهُ الصفوُ، وأنّ العنادَ ليس له مكانٌ في زواجِ الأذكياءِ، ولو أنهما ما استطاعا لَكانا ارتكبا حرامًا شرعيًّا، وموبِقًا نفسيًّا بإبداءِ مشاكلِهم أمام أولادِهم الذين يَختبئونَ في حجراتِهم، ويضعونَ وسائدَ نومِهم على آذانِهم، ويَبيتونَ وتَبيتُ معهم مَدامِعُهم وأحزانُهم، ويَنظرانِ بعدَ صحوِهما إلى والدَيهما على أنهما الوحشانِ الكاسرانِ، فتسقطُ هيبتُهما في نفوسِهم حقًّا، ويخافونَ صوتَيهما رعبًا، ويتوترونَ إذا نادوهما، ومع ذا تنكسرُ نفوسُ بَنيهِم أمامَ معلّمِيهم وصديقِهم، وتَضعفُ شخصياتُهم في الوصالِ مع الآخَرينَ، وكلّما رأوا مشهدًا ارتبطَ شرطيًّا بمزاعجِ والديْهم تذكّروهما واستحضروا همَّهم معهما، وكلّما أرادوا أنْ يكونوا المتفوقينَ المميَّزينَ كَبحتْهم هذه المشكلاتُ؛ إذ لا حِضنَ رشيدًا، ولا بيتَ شديدًا يأوونَ إليه بعدَ إنجازٍ، ولا كلامَ طيبًا يسمعونَه، ولو كانوا ملءَ الدنيا سمعِها وبصرِها وروحِها.

صحيحٌ أنك قد تَجدُ من أبناءِ هذه الظروفِ من يَكسِرُها، ويَصدرُ عنه ما هو الجمالُ ذاتُه، والمجدُ والسموُّ عينُهما، إلا أنّ طيَّ الجوِّ النفسيِّ الداخليِّ يجعلُهم لا يشعرونَ بأيِّ شيءٍ، فمديحٌ بكلمةٍ من والدٍ أكبرُ عندَ أحدِهم وأعظمُ من احتفالٍ خُصَّ به، أو جائزةٍ كونيةٍ ظفرَ بها، حتى إنك رُبما وجدتَه بعدَ انتهاءِ دوّامةِ دوامِ يومٍ تثّاقلُ قدَماهُ وتوشِكانِ لا تحملانِه، وهو السريعُ “الفطفاط” النشيطُ “النطّاط”؛ لأنه سيَصلُ إلى منزلٍ هو بؤرةُ الإزعاجِ، ومجتمعُ التَشظّي النفسي، لولا أنه يعتصمُ بربِّه ومولاهُ، ويأوي إلى مُصلّاهُ داعيًا واصبًا ومبتهِلاً متضرّعًا بأنْ يهديَ اللهُ والدَيْهِ، وأنْ يوفّقَ بيتَهم ليكونَ أحسنَ البيوتِ وأفضلَها، ثُم لا تنتهي صلاتُه؛ حتى يقرأَ من حِبرِ دموعِه على سطورِ سجّادتِه ما لسانُ حالِه: أيحِقُّ لوالديَّ أنْ ينهراني بـ”وبالوالدين إحسانا”، وهما اللذانِ مُذْ وَعيتُ الدنيا لا يدينانِ إلّا الوجهَ العبوسَ والتواصلَ الرسميَّ؟ أيجوزُ لهما أنْ يأمُراني بحبِّهما، والحبُّ فطريٌّ لا أملكُ أنْ أُعطيَه لهما أحدِهما أو كِليهما، وقد أعطياني تجاهُلاً بلا حدودٍ، وشِدّةً وتشدُّداً يملأُ الوجودَ؟ أيطلُبانِ مِني ألّا أتأفّفَ ظاهرًا، وفي قلبي ألفُ أفٍّ لطبيعتِهم حتى مع الناسِ، وهما لا يَهزُّهما بكاءُ أخي الصغيرِ ذي الستةِ أشهر، ولا يعنيِهما أنْ يراجِعا مع أخي في صفِّه الثاني الابتدائي شيئًا من حصصِ اليومِ المدرسيةِ، ولم أرَهُما عانَقا أحدًا مِنا من رَدحٍ طويلٍ من الزمنِ، كأنّ القسوةَ بحثتْ عن رحالِها؛ فلم تَحُطّ مَطاياها إلا في قلبَيهما؟!

ثُم لا تراني بعدَ هذا كلِّه، إلّا وقد مَسحتُ بيَقيني هذه الدموعَ المُحبَّرةَ، وطاردًا وساوسَ إبليسَ بـ”أعوذُ باللهِ العظيمِ من الشيطانِ الرجيمِ”، أُكرِّرُها ذاكرًا ربي، ومستعينًا به، ومُلتجئًا إليه، فتأتي صفحةٌ ملائكيةٌ تُمنّيني بمستقبلٍ جميلٍ، وتُخرِجُ مني أقوَى ما فيَّ، فإذا أنا مستوٍ مستقيمٌ أو تراني كذا متحاملاً، وقد ابتلاني اللهُ بأنْ أكونَ الولدَ الأكبرَ، فإذا بها الدنيا تلزُّني لأكونَ الوالدَ، والوالدةَ، والأخَ الأكبرَ والأوسطَ والأصغرَ، وأجتهدَ في تحصيلِ ما أستطيعُه لإخوتي، وأبذلَ جهدي لإخراجِهم من “مودهم” السيئ، وأجوائنا التاعسةِ، حتى غَدوا لا يطيقونَ المكوثَ في بيتِنا إلّا بوجودي، وأنا الذي عالجتني وساوِسي المتكرِّرةُ أنْ أغادرَ البيتَ لا ألوي على شيءٍ، فيا لِسعدِنا بهذه العاطفةِ السامقةِ اللطيفةِ لو أنّ بعضَها أو بُعيْضَها وُجدَ في والديِّ أو أحدِهما، ومع ذلك ترانا مُنتظرينَ بينَ إحدى الوجبتيْنِ اللتينِ نتناولُهما يوميًّا وجبةَ أنْ يفيءَ والدانا إلى وعيِهما، ويعانقا عاطفتَهما، فتتبدلَ حالُنا حُسنًا بعدَ سوءٍ، وطراوةً بعدَ جمودٍ وقتامةٍ، ولهما مِنا المسامحةُ التامّةُ، والمُصافاةُ التي لا يُستحضرُ معها التاريخُ العصيبُ.. فهلّا أقبلا مُقبلَيْنِ، وأَشرقا مُسعِدَيْن.!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى