مجسّمات تجمعُ بين المفاهيم الهندسيةِ والإبداع

تحقيق: ميادة حبوب
مّن مِنا لم يصنع قارباً ورقياً في طفولته؛ ليلعبَ به، ويراه طافياً فوق سطح الماء مهلّلاً وسعيداً بإنجازه؟! ومن منا لم يلعبْ بذلك الصاروخِ المصنوعِ من أوراقِ الدفاتر، نطيّرُه بين مقاعد الدراسةِ ونحن تلاميذ؟! ومن لم يصنعْ قبّعة أو قرطاساً أو صندوقاً من فائض الأوراقِ والكرتون؟! هذه كلُّها نماذجُ بسيطة لفنٍّ امتزجت فيه الهندسة، وانصهر معه الإبداعُ، فنٌّ يحوّلُ المسطحاتِ الثنائيةِ الأبعادِ لمجسّماتٍ ثلاثيةٍ الأبعاد، فن يحوّل الأوراقَ المُهمَلةَ، والقصاصاتِ الفائضةَ؛ إلى تحفٍ مبهِرةٍ تسُرُّ العينَ والنفس، فن يصنعُ ألعاباً ودُمىً من موادٍ زهيدةِ الثمن، إنه فن “الأوريغامي”، وقد تبحّرت “السعادة” في هذا الفنِّ مع مجموعةٍ من المهتمّينَ والمبدِعين في هذا المجال.
“الأوريغامي” كلمةٌ يابانية توضّحُ معناها أ. غدير الجعيدي (مدرِّبة وممارسة لفن الأوريغامي) قائلة: “مصطلح “الأوريغامي” يتكون من شِقّينِ “أوري” بمعنى (الطي)، و”غامي” بمعنى (الورق) أي “فنُّ طيِّ الورق”، ويرجعُ تاريخُ هذا الفنِّ إلى القرنِ السابع عشر الميلادي؛ حيث انتشرَ من اليابان إلى بقيةِ أنحاءِ العالم، وفي القرنِ التاسعِ عشر تحوّل من فنٍّ تقليدي ياباني، إلى شكلٍ من أشكال الفنونِ الحديثة، ويهدفُ هذا الفنُّ إلى تحويلِ الورقِ المسطّحِ -من خلال تقنياتِ الطيِّ- إلى مجسّمٍ ثلاثيّ الأبعادِ، عادةً ما يكونُ له شكلُ معيّنٌ، أو حالةٌ عامة، كما يوجدُ نوعٌ من أنواع “الأوريغامي” يسمّى “الكيريغامي”، وفيه يتمُ طيُّ الورقِ باستخدامِ الصمغِ والمقصِّ، لصناعةِ الشكلِ المراد”.
تاريخ الأوريغامي :
وقد تعدّدتْ الرواياتُ حول أصلِ هذا الفنِّ، واختلفت ما بين الأصلِ الياباني والأصل الصيني، وتُبيّنُ المهندسة رزان أبو دية (هاوية ومهتمة بفن الأوريغامي) قائلة: “في الحقيقةِ إنّ ما يُرجّحُ أنّ فنّ “الأوريغامي” هو فنٌّ ياباني، ولكنْ بسببِ صعوبةِ الحفاظِ على الورقِ، وصيانتِه من التلفِ والعفنِ والحشراتِ، لم يوجدْ شواهدُ على آثارِ هذا الفنِّ؛ لذلك لم يُعرفْ الكثيرُ عن تاريخِه، ولم يتم تأكيدُ أصولِه، إلا ما وردَ في الكتبِ، وتناقلَ فيها، ومن الأمورِ المذكورةِ في هذه الكتبِ؛ أنّ أولَ دليلٍ على وجودِ فنِّ طيِّ الورقِ في أوروبا؛ هو القاربُ الورقيُّ الصغيرُ منذ عام” 1490م”، كما كانت تصنعُ مجسّماتٌ من الورقِ على شكلِ فراشاتٍ تُستخدمُ في الأعراسِ اليابانيةِ، تعلّقُ فوق العروسين، وفي ثمانينياتِ القرنِ العشرين؛ بدأ عددٌ من المهتمينَ بدراسةِ الرياضياتِ المختلفةِ، حول مقاساتِ الأوراقِ، ومقاساتِ الطيّاتِ، وبدأتْ تظهرُ أشكالٌ أكثرَ تعقيداً، مرتبطةً بالهندسةِ، وسُمي بـ “الأوريغامي الحديث” وتمكّنَ الفنانونَ في تلك الفترةِ من صناعةِ مجسّماتٍ لأشكالٍ لم يكنْ بمقدورِهم صناعتُها، باستخدامِ الأوريغامي التقليدي”.
فنٌّ أَم علمٌ وهندسة؟
وتشير أ. الجعيدي بأنّ هذا الفنَّ قد بدأ كأحدِ فنونِ تغليفِ الهدايا في اليابان، حيث للهدايا قيمةٌ كبيرةٌ، وتُولَى اهتماماً بالغاً في تقديمِها، باعتبارِها ملمحٌ من ملامحِ الإتيكيت والأناقة، ومن ثم تحولتْ لوسيلةٍ شائعةٍ للتسليةِ، وسرعانَ ما تطوّرتْ هذه الهوايةُ إلى فنٍّ، وفي عام “1973م” تأسّستْ جمعيةٌ يابانية تسمّى “نيبون أوريغامي”، قامت بتوحيدِ الرموزِ والمصطلحاتِ المختلفةِ، التي تستخدمُ لشرحِ طرُقِ طيِّ وتشكيلِ الورقِ، لصناعةِ مجسّماتِ الأوريغامي، ومنذ ذلك الوقتِ تحوّلَ من مجردِ هوايةٍ‘ إلى علمٍ مرتبطٍ بالفنِّ والرياضياتِ، يحتوي على مجموعةٍ من القواعدِ للطيِّ واللّفِ؛ دونَ استخدامِ المقصِّ، أو الموادِ اللاصقةِ، لتصبحَ هذه القواعدُ مفرداتٍ ورموزاً وتعابيرَ معتمَدةً، يلجأ لها من أرادَ تعلُّمَ الأوريغامي، وقد دخل هذا الفنُّ حديثاً عالمَي الأزياءِ والديكورِ الداخلي، حيث تم استخدامُه في تصميمِ فساتينَ مبتكَرةٍ، صاغ فيها المصمِّمونَ أشكالَ الأوريغامي من الأقمشةِ، كما تم تصميمُ بعض إكسسواراتِ المنازلِ على أشكالِ الأوريغامي، باستخدام الورقِ المقوّى، أو الكرتونِ؛ ليُضفي على البيتِ لمسةً فنيةً وتميُّزاً، والجميلُ في هذا الفنِّ؛ أنه يطلقُ العنانَ لخيالِ الإنسانِ، لكي يبدعَ.. وهذا يجعلُه في قائمةِ الفن، كما أنه لا يتطلبُ -مِثلَ غيرِه من الفنونِ اليدويةِ- موهبةً كبيرة، بل مُجردَ تدريباتٍ بسيطةٍ، وقواعدَ هندسيةٍ، يمكنُ صقلُها مع الوقت، بتكرارِ التجربة، وهذا يجعلُه في قائمةِ علمِ الهندسةِ والرياضياتِ، على شرطِ توفُّر الخيالِ والقدرةِ على الابتكارِ، ومن هنا فهو فنٌّ وعلمٌ وهندسة.
الموادُ والأدواتُ :
أمّا بالنسبة للموادِ والأدواتِ المستخدَمةِ في هذا الفن؛ تُدرِجُها م. أبو دية قائلة: “موادُ الأوريغامي موادٌ بسيطةٌ زهيدةُ الثمنِ، وعادةً ما يتمُ استخدامُ الأوراقِ مربَّعةَ الشكلِ، وصغيرةَ الحجم، كما وتكونُ ذاتَ أطرافٍ ملوّنةٍ، وبشكلٍ عام يمكنُ استخدامُ جميع أنواعِ الورقِ لصنعِ الأوريغامي, فالشرطُ الوحيدُ هو أنْ تكونَ الطيّاتُ واضحةً على الورقة، كما أنّ هناك عدّة أنواعٍ من الورقِ، تستخدمُ خصّيصاً لفنِّ الأوريغامي ومنها: ورق (الواشي)، وهو ورقٌ يابانيُّ الصنعِ؛ يتميّزُ بكونِه أكثرَ ليونةً من الورقِ العادي، ويعدُّ هذا الورقُ من أغلى أنواعِ الورقِ، حيث يصنعُ يدوياً من سيقانِ النباتاتِ، ولكنه لا يتمُ استخدامُه على نطاقٍ واسعٍ؛ بسببِ ارتفاعِ أسعارِه، ومن الأنواعِ المستخدَمةِ أيضاً، ما يسمّى بـ (الورق المزدوج)، وهو زهيدُ الثمنِ، وله وجهانِ، كلُّ وجهٍ له لونٌ مخالفٌ عن الوجهِ الآخَرِ، ومن الأنواعِ منتشرةِ الاستخدامِ أيضاً (ورق الفويل)؛ وهو يصنعُ خصّيصاً لهذا الفنِّ بلونَيهِ الذهبي والفضي، ويوجدُ أوراقٌ منقوشةٌ بعدّةِ نقوشٍ، تُستخدمُ لإظهارِ خاماتٍ معيّنةٍ، خصوصاً لصُنعِ مجسّماتٍ للحيواناتِ والنباتات”.
علِّموهُ لأطفالِكم..
ومن الجدير بالذكرِ، بأنّ الأوريغامي فنٌّ يتعلّمُه أطفالُ اليابانِ منذُ الصغر، ويتضمنُ منهاجُ الدراسةِ مادةً مخصَّصةً لتعليمِ هذا الفنِّ، وتحدِّثنا الأستاذة هديل عواد (ماجستير في تربية الطفل) عن التأثير الإيجابي لممارسةِ فن الأوريغامي قائلة: “لهذا الفنِّ تأثيرٌ إيجابيّ واضحٌ على الأداءِ العقلي والدراسي للأطفال، كما أنه يعدُّ فقرةً مسليةً وممتعةً، وجزءاً من وقتِ الترفيهِ واللعبِ، ومن أهم الفوائدِ التعليميةِ للأطفال: تقويةُ الذاكرةِ؛ حيثُ أنّ عليهم مشاهدةَ الخطواتِ، والاستماعَ إليها جيداً؛ كي ينفّذوها لاحقاً بمُفردِهم، فيعلّمهم هذا.. الصبرَ والتركيزَ والدقةَ للوصولِ إلى النتيجةِ المرضيةِ، ويربطوا بين النتائجِ والأسباب، ويقوّي عندهم الشعورَ بالإنجازِ، ويتعلمون وضْعَ الأهدافِ والخُططِ، والسعيَ لتحقيقِها، هذا عدا تنميةِ وصقلِ مخيّلتهم وطاقاتِهم الإبداعيةِ، وتقويةِ حِسِّ الجمالِ والتوازنِ لديهم، كما ويقوي مهاراتِهم الاجتماعيةِ، حيث يمكنُ اللعبُ مع الأصدقاءِ والوالدين ، كما يزيدُ من ثقتِهم بأنفسِهم، وقد أثبتت الدراساتُ حديثاً بأنّ ممارسة فنِّ الأوريغامي يقوّي فَصَّي المخِّ الأيسر والأيمن معاً”.
فمن هذه الأوراقِ الصغيرةِ، وتلك الطيّاتِ؛ نحرّكُ الإبداعَ في عقولِنا، وعقولِ أطفالنا، ونحفزُ الخيالَ ليصلَ لعَنانَ السماءِ، لننتجَ تحفاً فنيةً مبهِرةً، نربطُ فيها بين العلمِ والفنِّ والتسليةِ في آنٍ واحد، وتشير م. أبو دية قائلة: “نحن في غزتِنا الحبيبةِ بأمسِّ الحاجةِ لإدخالِ هذا العلمِ والفنِّ إلى مناهجِ الدراسةِ؛ لتفريغِ الشحناتِ السلبيةِ التي خلّفتها الحروبُ في أطفالِنا، وننشط عقولَ الكبارِ والصغارِ، ومن الجميلِ أيضاً أنْ تهتمَّ كلياتُ الفنونِ الجميلةِ بإدراجِ هذا الفنِّ لقائمةِ مساقاتِ كليّاتِها؛ لينهلَ مَن رأى في نفسِه الموهبةَ، ويستزيدَ من هذا الفنِّ الراقي حقاً”.