مَن للحرائرِ في زمنٍ عزَّتْ فيه الرجولةُ؟

بقلم: أنوار عبد الكريم هنية
نساءٌ حمَلنَ رايةَ العِزّةِ في عقولِهنَّ وأرواحِهنَّ، لم يأبَهنَ لِسجنِ لا يَصلحُ للعيشِ الآدَميّ، ولا لِسجّانٍ يمارِسُ عليهنَّ الإرهابَ، ولم تَفُتْ من عَضُدِهنَّ “عصا” صهيونيةٌ عرفتْ طريقَها على أجسادِهنَّ في الاقتحاماتِ والمظاهراتِ، في زمنٍ عزّتْ فيه الرجولةُ، وتناثرتْ فيه الكرامةُ، وصمتَتْ فيه العروبةُ صمْتَ الهوانِ، وتَكالبَ العالمُ على الإسلامِ والمسلمينَ في كلِّ مكانٍ، وفي خِضَمِ الأحداثِ العالميةِ والإقليميةِ يَتفنّنُ الصهاينةُ في تهويدِ القدسِ، والمضيِّ في مخطَّطاتِهم الراميةِ إلى طمسِ الهُويةِ الفلسطينيةِ، والتنكيلِ بالمرابطاتِ اللاتي لم يَقِفنَ موقفَ المتفرّجِ أمامَ الهجمةِ الصهيونيةِ الشرِسةِ على المسجدِ الأقصى.
مجموعةٌ من النساءِ صنعنَ نصراً وعِزّةً وكرامةً، وسطّرْنَ برباطِهنَّ أروعَ ملاحمِ البطولةِ.. ترَكْنَ بيوتَهنَّ، أطفالَهنَّ، أزواجَهنَّ وعائلاتِهِنَّ، ووقفْنَ شامخاتٍ شموخَ الأُسودِ التي تزأرُ بِروحِها حينَ يتملِكُها الخطرُ، ويعتدي المُحتلُّ على بيتِها ومُلكِها ومقدّساتِها، وقفنَ يُرابِطنَ على عتباتِ المسجدِ الأقصى، ويَقضينَ أوقاتَهنَّ في الرباطِ على أعتابِ الأقصى بالذِكر وتدارُسِ القرآنِ الكريمِ، وتَعلُّمِ السيرةِ النبويةِ؛ لكنَّ ذلك لم يشفعْ لهنَّ أمامَ المحتلِّ؛ الذي ما فَتِئَ يلاحِقُهنّ ويعتدي عليهنّ، ويعتقلُ بعضَهنّ، في خطوةٍ تهدفُ إلى إقصائهنّ عن المسجدِ الأقصى، وثَنيِهِنَّ عن نصرتِه.
سبَّبَ رباطُهنَّ الدائمُ على عتباتِ المسجدِ الأقصى القلقَ الدائمَ للاحتلالِ، الذي أعدَّ قائمةً وأسماها “القائمة السوداء”؛ وسجّلَ فيها أسماءَ النساءِ اللواتي لهنَّ الدورُ المبارَكُ في عمارةِ المسجدِ الأقصى ، وتمَ توزيعُ هذه القائمةِ على عناصرِ الشرطةِ الصهيونية الموجودةِ على بواباتِ الأقصى الخارجيةِ؛ لمنعِ دخولِهنّ إلى المسجدِ الأقصى بشكلٍ تَعسُّفيٍّ ودونَ أيِّ سنَدٍ قانونيّ، عِلماً أنّ هذا المَنعَ ينافي كلَّ بنودِ القانون؛ ويَنتهِكُ الحرياتِ، حريةَ الحركةِ، والعبادةِ، والدخولِ إلى الأماكنِ المقدسةِ، حتى أنه يَنتَهِكُ أُسُسَ القانونِ المحليةَ والدوليةَ”.
أَطلَقَ عليهنّ الاحتلالُ الصهيونيُّ (القائمةَ السوداء) وهنّ “القائمةُ الذهبيةٌ” في عُرفِ الأقصى وقاطِنيهِ، وكلِّ مَن تَنفسَ الشهامةَ، وأُطلِقَ عليهِنّ “ذهب الأقصى” في وَسمٍ غرّدَ عليه مُستخدِمو مواقعِ التواصلِ الاجتماعي؛ في حملةٍ لنُصرتِهنَّ و الدفاعِ عنهنَّ في ظِلِّ حملةٍ شنّها المحتلُّ عليهنَّ؛ فأَسَرَ منهنَّ ثلاثاً من أعمدةٍ القائمةِ الذهبيةِ؛ وهُنَّ (سَحر النتشة، وهنادي حلواني، وخديجة خويص).
وباتت تُشكّلُ “القائمةُ الذهبيةُ” حالةً مفصليةً في تاريخِ القدسِ، لا تَقِلُّ أهميةً عن الحالاتِ التي رافقتْ مُقدِّماتِ التحريرِ في التاريخِ المُشرِّفِ، وقد شرعَ المحتلُّ باستخدامِ “القائمةِ الذهبيةِ” بتاريخِ( 10/8/2015)، وأدرجَ فيها (20) اسماً لسيداتٍ مَقدسياتٍ، والعددُ لا يزالُ في تزايُدٍ حتى وصلَ لـ (55) سيدةً؛ ومازالُ العددُ في ارتفاعٍ”.
ولم يكتفِ الصهاينةُ بمَنعِ ” القائمة الذهبية” من دخولِ المسجدِ الأقصى؛ بل فرضَ قائمةَ ممنوعاتٍ عليهنّ منها: ملاحقتُهنَّ في بيوتِهنَّ، وبينَ عوائلِهنّ، وفرضُ الحبسِ المنزلي، وحرمانُهنّ من الخدماتِ الصحيةِ، كذلك سَحْبُ جوازاتِ السفرِ الخاصةِ بهن، ومنعُهنّ من حضورِ المؤتمراتِ والوُرَشِ خارجَ البلدِ، إضافةً إلى صدورِ قراراتِ الإبعادِ بحقِّهنّ.
ولا يقفُ الأمرُ عندَ هذا الحدِّ؛ حيثُ يتعرّضنَ أثناءَ التحقيقِ للضربِ والإهانةِ ويُسجَنَّ في ظروفٍ لا تَصلُحُ للحياةِ الآدميةِ! وقد وَصفتْ “هنادي حلواني” إحدى المرابطاتِ السِّجنَ الذي رُحِّلتْ إليه عبْرَ مُحاميها بالقولِ:” وُضِعتُ في زنزانةٍ مُقرِفةٍ، تسيلُ فيها مياهُ الحمّامِ؛ وتصلُ إلى غرفتي؛ ما يَمنعُني من الصلاةِ والسجودِ في الزنزانةِ؛ فأُصلِّي واقفةً”.
وقد صادرَ الاحتلالُ الصهيونيُّ ملابسَها “حجابَها وجلبابَها” أثناءَ عودتِها إلى سجنِ الرملةِ، وأخبرَها بأنّ ملابسَها ستُعادُ لها عندَ انتهاءِ المحكمةِ؛ ولم يُعيدوها لها، ولا تزالُ تقبعُ في السجونِ الصهيونيةِ بتُهمةِ حُبِّ المسجدِ الأقصى والدفاعِ عنه .
ولا تزالُ المرابِطاتُ يدفَعنَ ضريبةَ الرباطِ، ويقاوِمنَ المحتلَّ المعتدي الذي يضربُ بالقوانينِ و الأعرافِ الدوليةِ عُرضَ الحائطِ، ولا يراعي إنسانيةً ولا دِيناً، وما زِلنَ يَكتُبنَ سيرتَهنَّ بمِدادِ الذهبِ، وأعَدْنَ للعروبةِ مجدَها، وللإسلامِ هيبتَه بدِفاعِهنَّ عن وَقْفٍ إسلاميٍّ تَخلّى عنه العربُ و المسلمونَ، و صَمتوا عن كلِّ ما يَحدثُ له من مُخطَّطاتٍ صهيونيةٍ زَيّفتْ الحقائقَ التاريخيةَ، ورَمتْ بحقوقِ الشعبِ الفلسطينيّ في بحرِ الوَهمِ.
نساءٌ عزَفنَ لَحنَ المجدِ على قيثارةِ تضحياتِهنَّ بالروحِ والأبناءِ والوقتِ والمالِ والجهدِ!، أمٌّ وزوجةٌ وابنةٌ وأُختٌ، كُنَّ قدوةً يُفتَخَرُ بشجاعتِهنَّ وصبرِهنَّ على الألمِ والأذى، ومع ذلك فلِسانُ حالِهنّ :”روحك ما يهِمها اعتقال..مَهما طال السجن وطال”.
لم يَعرفْ السجانُ بعدُ أنَّ نساءَ فلسطينَ لا تخضعُ للخصائصِ البيولوجيةِ المُتعارَفِ عليها عندَ النساءِ كافةً، فتلكَ التي رفضتْ للمُحتلِّ أنْ يُدَنّسَ مقدّساتِها، ودفعتْ ضريبتَها السَّجنَ، وقد رضعتْ الشهامةَ مع حليبِ أمِّها مُذْ كانت طفلةً في مهدِها، ولن يُضعِفَها سَجنٌ، ولن يَكسرَ شوكتَها إبعادٌ، وستَظلُّ تدافعُ عن مقدساتِها ما بقيَ الاحتلال.