كتاب الثريا

أهلاً بالدراسةِ في الشوارع

أهلاً بالدراسةِ في الشوارع

فيحاء شلش

“براءة” طالبةٌ مدرسية، كانت تنتظرُ حلولَ العام الدراسي الجديدِ بفارغِ الصبر؛ كانت ترتب “مريول” المدرسةِ الرسمي، وحذاءَها الجديد، وحقيبتها التي ابتاعتها مع والدتها، وتضعها جميعاً على سريرها، وتنامُ وهي تحلمُ بأيام الدراسةِ وجمالها مع صديقاتها.

وليس حبُّ “براءة” للمدرسة عادياً؛ فمدرستها تقعُ داخل المسجد الأقصى المبارك وأسوارِه، تحيطُ بنوافذِها مُصلياتٌ وأركانٌ يعودُ تاريخها إلى مئات السنين، وعشرات القرون، فيا له من مشهدٍ رائعٍ! لانتظامِ الحياة الدراسيةِ داخل أسوارِ الأقصى، وما أجملَها من لحظاتٍ؛ حين ينتشرُ الأذانُ العذبُ بين أروقةِ الصفوف والغرفِ المدرسية!.

توجّهتْ “براءة” صباحَ الثلاثاء- في أولِ يومٍ دراسي لهذا العام- مع شقيقتها “إسراء” وصديقاتها إلى مدرستهنّ في المسجد الأقصى، تبادلنَ أطرافَ الحديث عن كلِّ ما افتقدنَه خلال العطلةِ الصيفية، ولكنهنّ توقفنَ فُجأةً أمام متاريسَ وحواجزَ حديديةٍ؛ صنعتها شرطةُ الاحتلالِ في محيط الأقصى!

تفاجأت الطالباتُ! وأكملن المسيرَ تجاهَ المسجد، ظناً منهنّ أنّ تلك الإجراءاتِ يومية، وأنها مجردُ ترهيبٍ للمرابطين، وتخويفٍ لهم، ولكنّ أحدَ عناصرِ شرطة الاحتلالِ أجبرهنّ على الوقوفِ والتراجعِ، ومنعهنَّ من الدخولِ إلى الأقصى، ورغمَ مناشداتٍ عدّة أطلقنها؛ إلا أنّ الاحتلالَ قابلهنّ بالشتمِ والدفعِ والتهديدِ، ومن ثم اعتقلَ “براءة وإسراء”..!

نَعم، هذا ما حدثَ، وما زال في المسجد الأقصى؛ طلبةُ المدارس الشرعيةِ الواقعةِ داخل المسجدِ الأقصى المبارك، يُمنعونَ من دخول المسجدِ، مع عشراتِ النساءِ والمصلين لأكثرَ من عشرةِ أيام، يتعرضونَ للدفعِ والاعتداءِ والضربِ والشتمِ، لمجردِ المطالبةِ بحقِّهم في دخولِ الأقصى، والصلاة فيه، والدراسة هناك.

التقسيمُ الزماني الذي بدأت ملامحُه تطفو على سطحِ القضيةِ في القدس؛ بات يُعدُّ شكلاً بارزاً لانتهاك حرمةِ الأقصى وما فيه، فالمستوطنونَ الآن يقتحمون الباحاتِ بلا وجلٍ، ولا خوفٍ من المرابطينَ، الذين يتصدونَ لهم دوما بالتكبيراتِ والهتافاتِ، ما يجبرُهم عادة على تقصيرِ فترةِ الاقتحاماتِ واختصارِها، ولكنهم الآن يسرحونَ ويمرحونَ في ظلِّ تقسيمٍ زمانيّ مطبقٍ يوميًا.

طلبةُ المدارسِ هم الضحيةُ الأولى، وليست الأخيرةَ لتلك السياسةِ البغيضة، فهم يُحرمون من دخولِ مدارسِهم، ويتعرضونَ للترهيبِ رغمَ صغرِ أعمارِهم، وفوق ذلك يتحدونَ إجراءاتِ الاحتلالِ، ويفترشونَ الأرضَ للدراسةِ، فيبدأ عامُهم الدراسي الذي حلموا به في الشوارعِ والأزقةِ.

التقسيمُ الزماني كلمةٌ ليست سهلةً، ولا هي إجراءٌ عادي؛ بل هو أمرٌ أخطرُ من الذي جرى تطبيقُه في الحرمِ الإبراهيمي الشريف في الخليل، لأنّ الأقصى له أهميةٌ كبرى في فلسطينَ، وهو على رأس المطامعِ الصهيونية، والبدءُ بتنفيذ التقسيمِ أمرٌ له ما بعدَه من الإجراءاتِ العنصريةِ، التي تعطي المستوطنين أولويةً كبرى داخلَ الأقصى، فيما تمنعُ روّادَه وأحبابه من الدخولِ إليه، والصلاةِ فيه.. بل وحتى التواجدِ على أبوابهِ، ويتعرضون للاعتداء بوحشيةٍ؛ إذا قرروا الهتافَ أو التكبيرَ رفضاً لهذه الممارساتِ.

التقسيمُ الزماني أمرٌ ليس سهلاً أبداً يا أُمّة المليارِ! فهو بدايةُ الاستيلاءِ على الأقصى، وخطوةٌ أولى نحو السيطرةِ عليه، والاستيلاء على أماكنَ محدّدةٍ فيه، وهو أمرٌ لا بد أنْ تقفَ عنده الدولُ العربيةُ والإسلاميةُ، بل يستحقُ أنْ تشحذَ سيوفَها لأجلِها، وأنْ تجهّزَ جيوشها لإيقافِه، ولكنْ للأسفِ في المقابل، لا نجدُ كلمةً واحدةً تخرجُ من فيهِ مسلمٍ “أنّ الأقصى خطٌّ أحمرُ”.

ولا يتوقفُ الأمرُ عند هذا الحدِّ؛ بل يتعداهُ إلى قيام دولٍ عربيةٍ إسلاميةٍ شقيقةٍ بفصلِ حراسِ المسجدِ الذين يتجرأون للتصدي لاقتحاماتِ المستوطنينَ له!، فهل هذه المكافأةُ؟ وهل هكذا تتعاملُ مع حراسِ بيت الله الذين يصِلونَ الليلَ بالنهارِ من أجل حمايته؟ .. عجباً على زمنٍ أعوجَ! أمسى فيه التقسيمُ للأقصى أمرًا عاديًا، وكأنَّ شيئاً لم يكن!.

ما زالت “براءة” وصديقاتُها يفترشنَ أزِقةَ القدسِ القديمةِ، ويبدأنَ الدراسةَ على الشوارعِ، فقط لأنهنَّ فضّلن أنْ تكونَ دراستُهنَّ من داخل الأقصى، ورفضنَ تركَها، أو الخروجَ منها تحتَ سياطِ الخوفِ والتهديدِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى