كتاب الثريا

زُوروني كلَّ سنةٍ مرّةً

بقلم الكاتب الصحفي أحمد أبو سعدة

كَحبّاتْ المطرِ المُنسابةِ على أوراقِ الشجرِ الظمأَى ، وإنْ شِئتَ فقُلْ كفرحةِ الناجحِ بنجاحِه، والفارسِ بنتيجةِ كفاحِه،  هذا هو حالُ الأمُّ والأختُ والبنتِ، وكذا العمةِ والخالةِ، تنتظرُ بكلِّ شغفٍ دقّاتِ البابِ التي تُنبِئُ أنّ حبيباً من رَحمي جاءَ لِيَصِلَني من قطيعةٍ في غمرةِ الحالِ الفظيعةِ، وهنا يَحضُرُني الحوارُ المأثورُ بين الربِّ _تباركَ وتعالى_ والرحمِ حيثُ قالَ صلّى اللهُ عليه وسلمَ: إنّ اللهَ تعالى خلقَ الخلقَ؛ حتى إذا فرغَ من خَلقِه قامتْ الرحمُ فقال: مَه قالت : هذا مقامُ العائذِ بكَ من القطيعةِ، قال: نَعم أَما تَرضينَ أنْ أصِلَ مَن وصلَكِ، و أقطعُ من قطعَكِ ؟ قالت: بلى يا ربِّ قال: فذلكَ لك.

صِلةُ الرحمِ هي أمرٌ ربانيٌّ، وفرضٌ شرعيٌّ؛ ليَدومَ الحُبُّ والوئامُ والفرحةُ والسلامُ على قلوبِ الجميعِ، فالصِلةُ قُربةٌ وتَحسُّسٌ للهمومِ والآلامِ التي قد يُعانيها أحدٌ منهم، وما كان له أنْ يَعلمَ بها دونَ زيارةٍ ، قال صلى اللهُ عليه وسلّم قال اللهُ تعالى: أنا خلقتُ الرحِمَ، و شقَقتُ لها اسماً من اسمي، فمَن وصلَها وصلتُه، و من قطعَها قطعتُه “.

ولعلَّ من الحكمةِ الربانيةِ ربْطَ مصيرِ المرأةِ بالرجلِ منذُ اللحظةِ الأولى لحياةِ البشرِ في هذا الكونِ العامرِ، فَخلْقُ اللهُ أُمَّنا حواءَ من أبينا آدمَ دلالةٌ على عِظَمِ الترابطِ الأبديِّ الذي سيَجمعُ بينَهما في كلِّ محطّةٍ من محطاتِ حياتِهم.

هو ترابطٌ حتميٌّ أبدَيٌّ في مُجمَلِه لا تنفكُ عنه ولا يَستغني عنها مُطلقاً ، فلماذا تنسى مَن ولدَتْكَ وربّتْكَ وأرضعتْكَ وأعطتْكَ كلَّ ما تتمنَّى، ليَصلَ بك الحالُ إلى أنْ تَعُقَّها وتَضرِبَها؟؟

ثُم ما ذنبُ الأخواتِ، العمّاتِ والخالاتِ من هذه القطيعةِ ؟؟ أعلَمُ أنك ستَتَحجَّجُ بِقِلّةِ ذاتِ اليدِ والظروفِ السيئةِ ، ومَن قال لك أنه لا بدَّ أنْ تشتريَ ما لذَّ وطابَ في كلِّ زيارةٍ، وهي مُتعطِشةٌ لزيارتِك دونَ شيئٍ ممّا نعد.

إذا ما علِمنا أننا في بعضِ الأحيانِ ننزعُ الُّلقمةَ من أفواهِ صغارِنا؛ من أجلِ أنْ نسبحَ في فضاءِ (الأندرويد) والتقنيةِ المذهلةِ، وماذا عن التدخينِ بكافةِ أصنافِه “سجائرَ” كان أَم “معسَّلاً” ….. فالشواهدُ اليوميةُ أثبتتْ أنه لو أصبح سِعرُ العُلبةِ (100) $ سيَشتَريها البعضُ ليزيدَ العفنُ إلى جسدِه، ويزيدَ بُعداً عن نطاقِ البشريةِ .

ولْتَكُنْ وصيةُ النبيِّ _صلى الله عليه وسلم_ حاضرةً نُصبَ أعيُنِنا ” استوصوا بالنساءِ خيراً ” فهُنَّ الضعيفاتُ والغصنُ الرقيقُ، وتحتاجُ إلى من يرعاها ويَطمئنُ عليها على الدوامِ .

ماذا لو وصلتَ رحمكَ كلَّ شهرٍ مرةً، أو كلَّ شهرينِ أفي ذلك مشَقةٌ ؟؟ ما هو حالُ أختِك التي هجرتْها خمسَ سنواتٍ؟ وما زال الهجرانُ قائماً!، أمُّك التي عقَقْتَها وضربتَها!، وعمَّتُك التي ناصبْتَها العداءَ لأجلِ دراهمَ معدودةٍ، أو مترٍ هنا وهناكَ!، وخالتُك التي ظلمتَها بسببِ خلافِك مع أمِّكِ التي ربّتْكَ بِعرَقِ الجبينِ، وطولِ الأنينِ، ورُبما قطْعِ الوَتينِ من أجلكِ، فتَفنَى هي وتعيشُ أنتَ، حالُهن جميعاً يقولُ ” زوروني كلّ سنة مرّة… حرام تنسوني بالمَرّة ” ، واعلَمْ أخيراً أنه لا يدخلُ الجنةَ قاطعُ رَحمٍ .

و لا تنسَ أيها القارئُ الكريمُ فضْلَ زيارةِ الأرحامِ التي ذكرَها اللهُ تعالى في القرآنِ الكريمِ، فقد جعلَ اللهُ تعالى صِلةَ الأرحامِ من الإيمانِ، قالَ صلى الله عليه وسلم:(من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِـرِ فلْيـُكرِمْ ضيفَه ، ومن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيَصلْ رَحِمَه ، ومن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليَقلْ خيراً أو لِيصمتْ ) رواه البخاري.

وهي سببٌ للبَركةِ في الرزقِ والعُمرِ، لقولِه صلى اللهُ عليه وسلم:(من أحَبَّ أنْ يُبسَطَ له في رزقِه ، ويُنسأَ له في أثرِه ، فلْيَصلْ رحِمَه ) . رواه البخاري.

ولا تنسى أنْ صِلةَ الرحمِ سببٌ لصِلةِ اللهِ تعالى وإكرامِه، عن عائشةَ _رضيَ اللهُ عنها_ ، عن النبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلم أنه قال :(الرحمُ متعلِّقةٌ بالعرشِ تقولُ : من وصلَني وصلَه اللهُ ، ومن قطَعَني قطعَه اللهُ ). رواه مسلم، كما أنها سببٌ من أسبابِ دخولِ الجنةِ.

ألا يستحقُّ هذا الأجرَ وهذا الثوابَ أنْ تَصلَ رحِمَك وتبرَّهم، أنْ تتعالَى على مواقفِ الحياةِ و مادياتِها، أنْ تضعَ الخلافاتِ جانباً، وأنْ تزيِّنَ قلبَك بالرفقِ والِّلينِ، وأنْ تجعلَ زيارةَ الأرحامِ من أولَوياتِ حياتِك، يستحقُّ إذا أردْنا الجنةَ وسعَينا لها، وإذا وضعْنا مخافةَ اللهِ نُصبَ أعيُنِنا، وإذا نجحْنا في جهادِ النفسِ و الرقيِّ بها لتكونَ مِرآتَنا الحقيقةَ أمامَ أنفسِنا؛ تُرشِدُها على الخيرِ بشَتَّى أنواعِه لتصلَ بنا إلى الجِنانِ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى