مجد الطحان – حِرمانٌ كبّلَتْهُ القيودُ لتسعةَ عشرَ عاماً؛ ثُم رحيلٌ بلا عودةٍ

إعداد- إسراء أبو زايدة
لم يَبلغْ الشابُّ المَقدسيُّ مجد الطحان من العمرِ (20) ربيعاً، منها سنتان وثمانيةُ أشهرٍ من أصلِ ( 19) عاماً، أمضاها “مجد” في أحضانِ والدِه الذي غيَّبتْهُ سجونُ الاحتلالِ عن عائلتِه، وانتزعتْ من جسدِ أفرادِ العائلةِ الدفءَ الأُسري؛ حتى أصبحتْ معالمُ الحرمانِ والفقدِ محفورةً على مُحَيَّا “مجد” منذُ أنْ تمَّ اعتقالُ والدِه الأسيرِ “رجب الطحان” للمرةِ الأولى، وكان “مجد” يبلغُ من العمرِ حينها (4) أشهرٍ فقط، أمضى سنواتِه العجافَ بعيونٍ شاردةٍ؛ يحتضنُ طيفَ والدِه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ حتى تمَّ الإفراجُ عن والدِه عندما وصلَ إلى عمرِ (13) عاماً..
وعادت سلسلةُ العذاباتِ تلاحقُ “مجد” وأشِقاءَه الأربعةَ؛ بعدما أعادَ الاحتلالُ اعتقالَ والدِهم قبلَ نحوِ ثلاثِ سنواتٍ ونصفٍ، رغمَ نَيلِه حريتَه في صفقةِ (وفاء الأحرار)؛ وذلك بعدَ أنْ أمضى (13) عاماً من حُكمِه المؤبّدِ، وما زادَ الطينَ بِلَّةً صراعُ “مجد” مع مرضِ سرطانِ الدمِ ، ومعاناتُه من أوضاعٍ صحيةٍ خطيرةٍ بعدَ خضوعِه لعمليةٍ جراحيةٍ، أصبح حينذاك كالغزالِ الطريدِ، فلم يَعدْ البيتُ مأواهُ، ولا مكوثُه في المَشفى يُطفئُ لهيبَ أوجاعِه، جَّردَه المرضُ من طفولتِه، فباتت صحتُه تتدهورُ كلَّ يومٍ، وجسدُه النحيلُ لم يَعدْ يحتملُ جرعاتِ الكيماوي الذي جعلَ قلبَه يشيخُ رغماً عنه، وازدادتْ سوداويةُ أيامِه بِبُعدِ والدِه عنه في دهاليزِ السجنِ.
كان وصولُ الأسيرِ “الطحان” إلى ابنِه “مجد” مستحيلاً، فكانت كلماتُه الجريحةُ في رسالةٍ عاجلةٍ أفضلَ الحلولِ المطروحةِ على الطاولةِ من قِبَلِ محاميهِ، وجاءت الكلماتُ على لسانِه:” ابني الغالي على روحي وقلبي “مجد”، سامِحني لأنني لا أشارِكُكَ أوجاعَك وآلامَك، صحيحٌ أنك بعيدٌ عن عيني، لكنّك لستَ بعيداً عن قلبي، لستَ بينَ يدَيَّ، لكنّك في روحي ووجداني، يَعلمُ اللهُ أنّ قلبي وروحي ووِجداني معك، فالأشواقُ متعطشةٌ لِلقائك، تراني دائمَ الدعاءِ للهِ؛ كي يَشفيكَ ويُعيدَك إلينا سالماً معافَىً يا ربِّ، كيف أكونُ بخيرٍ وابني ليس بخيرٍ!، كنتُ أتمنى أنْ أكونَ معك أحضِنَكَ.. أحمِلَك.. أخفِّفَ عنك أعطيكَ من دمي كلَّ ما أملكُ، ولدي حرموني منك (16) عاماً، واليومَ يَحرموني منكَ وأنت في ذروةِ مرضِكَ، وتحتاجُني ولا أقدِرُ أنْ أصلِكَ رغماً عني لألتقيَ بكَ، اعلَمْ يا بنيَّ، لا السجنُ والسجانُ، ولا الأسوارُ الشائكةُ، ولا القيودُ اللئيمةُ تستطيعُ أنْ تَحولَ بيني وبينَك، فأنتَ في القلبِ والروحِ.. يا مُهجةَ القلبِ “مجد”، إذا داهمَكَ الألمُ، وتَعاقبَ عليكَ البلاءُ؛ فالْهَجْ بذِكرِ اللهِ، وارفعْ كفَّيكَ، وأطلِقَ لسانَك، وأكثِرْ من طلبِكَ وألِحَّ عليه، واشكُرْ باسمِه، فبذِكرِه _سبحانه وتعالى_ تُزاحُ جبالُ الهمِّ والألمِ والأسَى”.
مُختتِماً رسالتَه:” حبيبي “مجد” مع الدمعةِ بسمةٌ، ومع الخوفِ أمنٌ، ومع الفزعِ سكينةٌ، وبعدَ العُسرِ يُسرٌ، فلا تَضِقْ ذَرعاً، وإذا داهمَك الألمُ والخوفُ؛ فقُلْ حسبيَ اللهُ ونِعمَ الوكيل؛ عندَها ينبسطُ خاطرُك ويهدأُ قلبُك”.
غيماتٌ سوداءُ اكتستْ فوقَ سماءِ الأسيرِ “رجب الطحان”؛ بعدما تلقَّى خبرَ مرضِ طفلِه، فلم تَعُدْ السماءُ سماءَه، ولا الأرضُ أرضَه، وهو ما زال يقبعُ في غرفةٍ مظلمةٍ بينَ أربعةِ جدرانٍ مُكبَّلاً بالسلاسلِ؛ ودُعاءُ قلبِه فقط كان الخيطَ المتينَ الذي يربطُه باللهِ. صراعاتٌ مريرةٌ مع سَجَّانِه، إضراباتٌ مفتوحةٌ عن الطعامِ؛ حتى يحظَى بلحظةِ عناقٍ “لمجد” في محاولةٍ منه للتخفيفِ من أوجاعِه، وبعدَ صولاتٍ وجولاتٍ وجهودٍ مضنيةٍ، بتقديمِ أكثرَ من طلبٍ والتماسٍ للمحكمةِ الإسرائيليةِ المركزيةِ في بئرِ السبُعِ؛ تمَّ انتزاعُ القرارِ بزيارةِ “مجد” في المَشفى!.
ذلك الصمتُ المُطبِقُ الذي كان مُخيّماً على المكانِ، كَسرَه حِدَّةُ صوتِ السلاسلِ، في مشهدٍ ترتجفُ له القلوبُ؛ جاءت الفرحةُ المُنكسِرةُ بِطلَّةِ البطلِ الأسيرِ “رجب الطحان” بوَجهٍ مُتَجَهِمٍ ويدَينِ مُكبّلتَينِ بالقيودِ، وقطعانٍ من قواتِ الاحتلالِ منتشرةً في أرجاءِ المستشفى.
وعلى سريرٍ في إحدى غرفِ المستشفى؛ جسدٌ نحيلٌ أنهكتْهُ جرعاتُ الكيماوي ، وجموعٌ من الناسِ تحيطُ به، يناظرُ “مجد” الشخصَ القادمَ وهو عاقدُ الحاجبَينِ، وكانت عيناهُ شمساً في وقتِ المغيبِ، والدموعُ تتسابقُ من المُقلتَينِ، لم يكنْ التعرُّفُ على “مجد” سهلاً بالنسبةِ لأبيهِ في ظِلِّ التغيُّراتِ التي بدتْ عليه.
ثلاثونَ دقيقةً وسطَ إجراءاتٍ أمنيةٍ صارمةٍ رغمَ مرورِها كالبرقِ ؛ إلّا أنها كانت من أجملِ لحظاتِ العمرِ وأسوَئِها في ذاتِ اللحظةِ، من شدّةِ العناقِ أصبحا جسداً واحداً، إلّا أنّ عقاربَ الساعةِ خانتهُما وأعلنتْ انتهاءَ الموعدِ المنتظَرِ، وكان ذلك اللقاءُ الأخيرَ بينَهما.
وبعدَ صراعٍ طويلٍ مع مرضِ سرطانِ الدمِ، في مستشفى “هداسا عين كارم” الإسرائيلي في القدسِ؛ تُعلنُ دقّاتُ قلبِ “مجد الطحان” رحيلَها عن الحياةِ إلى الأبدِ، بجوارِ مَن هو أرحمُ من كلِّ البشرِ…
غابَ “أمجد” جسداً؛ لكنّ روحَه تحلّقُ في سماءِ مُحبِّيهِ، وله في كلِّ مكانٍ بصمةٌ، ابتسامتُه لم تَغِب عن الذاكرةِ، كلماتُه مسجَّلةٌ كما أنها في شريطٍ يسترجعونَها في شتَّى المواقفِ، ولا تزالُ ملابسُه و أشياؤه الخاصةُ لا تُراوِحُ مكانَها؛ يشتمُّون أريجَها، و يضمونَها كأنها بعضٌ منه، ففي لغةِ الموتِ؛ تُغادِرُنا الأجسادُ؛ وتفارقُ ساعاتِنا بلا ضمَّةٍ؛ لكنّ الأرواحَ لا تغيبُ.