“هل علم أهل المدينة بكم”

بقلم- د. صادق قنديل أستاذ الشريعة الإسلامية
عنوان هذا المقال كلمة قالها عمر- رضي الله عنه- لما وصل له الخبر أن مجموعة من الشباب في مصر يعترضون على سياسته – رضي الله عنه- من أنه لا يعمل ببعض ما جاء في كتاب الله- عز وجل- فقد روى ابن جرير بسنده وقال عنه عقبة إسناده صحيح: ” أن ناسا سألوا عبد الله بن عمر بمصر.
فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله – عز وجل- ، أمر أن يعمل بها، لا يعمل بها! فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك، فقدم وقدموا معه، فلقي عمر – رضي الله عنه- فقال: متى قدمت؟
قال : منذ كذا وكذا، فقال : يا أمير المؤمنين، إن ناسا لقوني بمصر، فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها، فلا يعمل بها، فأحبوا أن يلقوك في ذلك، قال: فاجمعهم لي، قال: فجمعتهم له، فأخذ أدناهم رجلا،
فقال: أنشدك بالله، وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال : نعم، قال: هل أحصيته في نفسك؟ أي : هل استقصيت العمل به في تصحيح نيتك، وتطهير قلبك، ومحاسبة نفسك؟ فقال: اللهم لا،( ولو قال : نعم لخصمه) أي: لأفحمه وألزمه الحجة، قال: فهل أحصيته ببصرك؟ فهل أحصيته في لفظك ( أي: كلامك)؟ فهل أحصيته في أثرك ( أي: في خطواتك ومشيتك)؟ ثم تتبعهم حتى آتى على آخرهم . ( يعنى وهو يسألهم، هل استقصيتم العمل بكتاب الله كله في أنفسكم، وجوارحكم، وأقوالكم، وأعمالكم، وحركاتكم، وسكناتكم؟ وهم بالطبع يجيبون اللهم لا.
فقال: ثكلت عمرا أمه! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ ( أي: بالصورة التي تفهمونها أنتم، ولم تقيمونها في أنفسكم باعترافكم، فقال لهم : قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات، وتلا ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) .
ثم قال: هل علم أهل المدينة أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا لا، قال: لو علموا لوعظت بكم، ( أي لجعلتكم عظة ونكالا لغيركم) رحم الله أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه- حاورهم وأقام عليهم الحجة، وسد بابا من أبواب التشدد والتنطع، ولو تساهل في الأمر لنحرف ضعاف الفهم، جهلاء التصور، دعاة الاستعجال .
وقد يخطئ من الشباب المتدين من يظن، أن الأمر يكون بحمل الناس على رأي واحد، أو يعامل الناس كل الناس على أنهم في مرتبة واحدة، أو يقيس ظروف مجتمع على مجتمع آخر، أو يقيم الحجة برأي واحد عليهم وعلى الأمة.
ومن الخطأ الأكبر إخراج الناس من الملة، أو وصفهم بأنهم يعملون تحت قبة شركية، أو التشويش عليهم وتشويه صورتهم، وبث التأليب عليهم بين الناس ، فانظروا إلى خيرهم فإن خيرهم كثير، ورحم الله الإمام الشافعي لما قال: ” رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غير خطأ يحتمل الصواب” هذا هو الشافعي.
أما من هم دون الأدنى من الشافعي فلعمري كيف يكون الأمر بالنسبة لهم! إذن أيها الشباب وحدوا قلوبكم، واتركوا ظنونكم، ولا تجعلوا المجتمع ينبذكم بانحراف فكركم، أو سوء ظنكم، فدعوة الإسلام تكون مع الحق أينما كان، وتحب الاجتماع، وتكره الشذوذ، وإن أعظم ما ابتلي به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.