د.أمل خليفة: أشعرُ بالغربةِ في أيِّ بلدٍ أزورُها؛ إلاّ غزةَ شعرتُ أني في وطني

حوار: صابر محمد أبو الكاس
لو نطقَ المسجدُ الأقصى؛ لَشهِدَ لهذه المرأةِ مواقفَها البطوليةَ، وجرأتَها القويةَ في الدفاعِ عن مَسرى رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم- وعن القضيةِ الفلسطينيةِ؛ التي هي قضيتُها الأولى، والتي سافرتْ وارتحلتْ إلى بلدانٍ عديدةٍ،وزرعتْ في نفوسِ أبنائها حُبَّ القدسِ والأقصى، أخذتْ على عاتقِها حمْلَ همِّ الأقصى والتعريفَ به في كلِّ مكانٍ، وكلِّ بقعةٍ في هذه الأرضِ، تطأُ فيها قدَماها، فكانت خيرَ سفيرةٍ للأقصى وفلسطينَ_ رغمَ مِصريَّتِها_ إلاّ أنها تَعُدُّ نفسَها فلسطينيةً أكثرَ من الفلسطينيينَ أنفسِهم، كانت زيارتُها لغزةَ حُلماً تَحقَّقَ، وأُمنيَّةً متجدِّدةً بتَكرارِ هذه الزيارة.
على بساطِ “السعادة” كان لنا شرفُ هذا الحوارِ مع الدكتورة “أمل خليفة” المتخصِّصةِ في القضيةِ الفلسطينيةِ، والباحثةِ في شؤونِ القدسِ لأكثرَ من خمسةَ عشرَ عاماً، بدأْنا حوارَنا معها بالسؤالِ:
من هي د. أمل خليفة؟
أمل محمد خليفة، متزوجةٌ، ولي سِتةٌ من الأبناء، مصريةٌ وأقطُنُ في مدينةِ الإسكندرية، طبيبةٌ بشرية، لكني لم أعملْ بالطبِّ، وإنما تحوّلتُ إلى مجالِ التاريخ، وحصلتُ على ليسانسِ آدابِ تاريخ، ودبلومِ علومٍ اجتماعية، وتخصَّصتُ في تاريخِ القضيةِ الفلسطينية، وكلِّ ما له علاقةٌ بالقدسِ وفلسطينَ، وذلك منذُ أكثرَ من خمسةَ عشرَ عاماً .
وما سِرُّ شَغفِكِ بالقضيةِ الفلسطينيةِ، ومدينةِ القدسِ تحديدًا؟
شَغفي بالقضيةِ الفلسطينيةِ، واهتمامي بها؛ أعُدُّه رزقاً من اللهِ “سبحانه وتعالى” حيثُ أحببتُ فلسطينَ وتاريخَها وقضيتَها؛ حتى اعتقدَ الكثيرونَ بأنني فلسطينيةٌ؛ من شِدّةِ تعلُّقي بفلسطينَ، لدرجةِ أنّ الكثيرينَ يعُدُّونَني فلسطينيةً، ويبرِّرون ذلك بالشَّبَهِ الكبيرِ منهم، لدرجةِ أنني في أحدِ الأيامِ؛ كنتُ عائدةً من زيارةٍ خارجَ مصر، وعندما خرجتُ من مطارِ القاهرةِ؛ استقبلَني سائقُ سيارةِ أُجرة، وسألني : المعبر ؟ حيثُ ظنَّ أنني من غزةَ، وأريدُ الذهابَ إلى المعبرِ، فسألتُه: لماذا ظننتَ أنى ذاهبةٌ إلى المعبر؟! فقال لي أنّ هيأتي كأهلِ غزةَ ! فضحكتُ وأنا سعيدةٌ بهذا الشرفِ .
وتضيف:أُخصِّصُ أكثرَ كتاباتي عن الأقصى وفلسطينَ؛ خاصةً على صفحتي عبرَ “الفيس بوك” لدرجةِ أنني عندما بدأتُ بالتعليقِ على الأحداثِ التي تَشهَدُها مصرُ؛ وجدتُ مِن المصريينَ مَن يطالِبُني بعدَمِ التدخُلِ في الشؤونِ المصريةِ؛ كَوني فلسطينيةً.
من خلال سفرِك وتَرحالكِ لعديدٍ من الدول، كيف وجدتِ اهتمامَ الشعوبِ بالأقصى؟
سافرتُ لأكثرَ من دولةٍ؛ لأُحدِّثَ الناسَ عن القدسِ والمسجد الأقصى، ووجدتُ بأنّ حُبَّ الأقصى عميقٌ في نفوسِ كلِّ المسلمين، لكنه يحتاجُ فقط لمن يزيحُ عنه الغبارَ، فحبُّهم له مرتبطٌ بالقرآنِ وبالنبي “صلى الله عليه وسلم” وبجميعِ الأنبياءِ الذين صلّى بهم نبيُّنا الكريمُ في باحةِ الأقصى.
هذا الشغفُ والانشغالُ بقضيةِ القدس؛ ألاَ يأخذُ من وقتكِ ووقتِ العائلةِ الكثيرَ؟
مَن يعملْ للأقصى، تسري في حياتِه بركةُ الأقصى؛ التي ذَكرها اللهُ في مطلعِ سورةِ الإسراء، وهذا ليس كلامي وحدي، وإنما هو كلامُ كلِّ من يعملُ للأقصى، وهذه البَركةُ يلمسُها المرءُ في كلِّ نواحي حياتِه: في صحتِه، ووقتِه، وأولادِه، ويجبُرُ بها اللهُ “سبحانه” أيَّ تقصيرٍ في حقِّ البيتِ أو الأولاد .
بالتأكيدِ؛ كلُّ زوجٍ يحبُّ أنْ تكونَ زوجتُه بجوارِه دوماً، ألَم يؤَثِّر ولَعُكِ بالقضيةِ الفلسطينيةِ على حياتكِ الأُسَرية ؟
الحمدُ لله ربِّ العالمين، زوجي متفهِمٌ لأهميةِ الدورِ الذي أقومُ به، حتى أنّ اللهَ “تعالى” يرزقُني بأُناسٍ قد لا أعرِفُهم، يقابلونَه، ويتحدثونَ معه عن ضرورةِ أنْ يساعدَني، وأنْ يتحمّلَ المشقّةَ؛ لينالَ الثوابَ، فيزدادُ تمسُّكاً بموقفِه، وبالفعلِ هو على قناعةٍ تامةٍ بأنه شريكٌ في الثواب .
من حيثُ موقعِك وتجارِبك في الحياةِ؛ لا شكَّ بأنّ المواقفَ التي حدثتْ معكِ كثيرةٌ، نَوَدُّ أنْ تَعرُجي لنا على بعضٍ من هذه المواقفِ؛ سواءٌ كانت طريفةً أو مفرحةً أو محزنةً؟
ربما لو سألني أحدٌ هذا السؤالَ منذ عامٍ؛ لاختلفتْ الإجابةُ، فكميةُ الأحداثِ التي نمرُّ بها هذه الأيامَ؛ غيرُ طبيعيةٍ من كلِّ شكلٍ ولونٍ، و لا تكفيها مُجلّداتٌ .
فمِن أكثرِ المواقفِ طَرافةً؛ ما حدثَ معي منذ عدّةِ أيام، في إحدى المسيراتِ اليوميةِ الرافضةِ للانقلابِ العسكريّ في مصر، حيثُ هجمَ علينا مجموعةٌ من البلطجيةِ، وأنا عادةً أرتدي في المسيراتِ الكوفيةَ الفلسطينيةَ فوقَ طرحتي(منديلي)، لتذكيرِ الناسِ بفلسطينَ، وكنتُ في هذا اليومِ أضعُ دبّوساً عليه إشارةُ “رابعة” على الكوفية، حتى اقتربَ منّي أحدُ البلطجية، وهو ضخمُ الجثةِ، وأمسكَ بالكوفيةِ وانتزَعها بقوةٍ من حولِ رَقبتي، رغمَ أنّ عندي كثيراً من الكوفياتِ غيرَها؛ لكني شعرتُ بالمَهانةِ، ولم أشعرْ إلا وأنا مُطبِقةٌ على رقبتِه، وأصرخُ فيه قائلةً : والله لن تأخذَها مِني، ورفعتُ يدي، وبكلِّ قوتي ضربتُه على وجهِه، وكنتُ مُضطَّرةً أنْ أطيلَ قامتي؛ كي أضرِبَه، لأنه أطولُ مِني، انتزعتُ الكوفيةَ من يدِه، وقبلَ أنْ يفيقَ من ذهولِه، كنتُ قد رفعتُ يدي من جديدٍ؛ لأضرِبَه مرّةً أخرى على وجهِه، ومن طريقةِ إمساكي به، وعُلوِّ صوتي ، وضرْبي له، ظنَّ الناسُ حولي أنه انتزعَ حِجابي، أو أنه مسّني بالأذى، فخلّصوهُ من يدي، وهم ينهَروهُ قائلينَ له : كيف تمدُّ يدَك على سيدة ؟!وما زلتُ حتى الآنَ أضحكُ أنا وابنتي التي حضرتْ الموقف، كلّما تذكَّرنا هذا الموقف .
أمّا إذا ما تحدَّثنا عن المواقفِ الحزينة، فكان أكثرُها حزناً؛ هو يومُ وفاةِ والدي “عليه رحمةُ الله” لكني أذكُر يوماً آخَرَ، بكيتُ فيه بكاءً شديداً مُرّاً، وكان هذا من عدّةِ سنواتٍ مضتْ، عند زيارتي للأردن، عندما أخذونا فى رحلةٍ لرؤيةِ الحدودِ الأردنيةِ الفلسطينيةِ، وكانت بحيرةُ “طبرية” على مَرمى البصرِ مِنا، يومَها بكَيتُ كما لم أبكي من قبلُ ، حتى كِدتُ يُغشَى عليَّ، وظلَلتُ أبكى حتى بعد أنْ انصرَفْنا .
كنتُ أشعرُ أننا نقفُ في موطئِ قدمِ الصحابةِ؛ حين قدِموا إلى هذه البلادِ، وأنّ الأجيالَ الماضيةَ تركتْ لنا في هذه الأرضِ آثارَ عِزٍّ وفَخارٍ، وانتصاراتٍ وأمجادٍ؛ في اليرموك، وأجنادين، وحطين، وعين جالوت .. فماذا سنتركُ نحن للأجيالِ من بعدِنا، سِوى الهزائمِ؟! هنا انهزمَ جيشُ مصر! وهنا انكسرَ جيشُ العراق! وهنا انسحبَ جيشُ الأردن!
قطاعُ غزةَ كان أحدَ الأماكنِ التي زُرتيها، فما هو الانطباعُ الذي تركتْهُ هذه الزيارة؟
في الحقيقةِ أنني زرتُ بلاداً كثيرة ، وخلالَ هذه الزياراتِ ؛كنتُ أشعرُ أنني في زيارةِ بلدٍ غريبٍ عني، وسأعودُ بعدَها إلى بلادي، لكنْ في غزةَ الأمرُ كان مختلفاً؛ فلم أشعرْ أني في بلدٍ غريبٍ، لكني شعرتُ أني في بلدي، كما أنني لا أظنُّ أحداً زارَ غزةَ؛ إلاَّ وتركتْ الزيارةُ بصماتٍ غائرةٍ في نفسِه .
وقد شرَّفني اللهُ بزيارتِها مراتٍ عديدةً، وفى المرةِ الأخيرةِ اصطحبتُ معي ابنتي الكبرى وعريسَها، وهما قد عقَدا عقدَ الزواجِ، لكنْ لم يتِمْ زفافُهما بعد، وفوجئتُ أنّ ابنتي تُبدي رغبتَها في أنْ يكونَ شهرُ العسلِ في غزة ! ساعتَها قلتُ لها: إنّ الأمرَ سيَدخُلُ في موسوعةِ “جينس” وسوف يكونُ الزفافُ _بإذنِ اللهِ_ نهايةَ العام، وأتمنّى أنْ تكونَ الغُمَّةُ قد انقشعتْ عن أُمَّتِنا، ونعودُ لنرى غزةَ وأهلَها الكرام .
الإعلامُ العربي_ وتحديداً المصريَّ_ يتّخِذُ موقفاً معادياً من غزةَ، ويعدُّها عَدُوّاً يجبُ مُجابهتُه؟
الدنيا كلها سلّمتْ للصهاينة، واعترفوا لهم بحقِّهم في أنْ يستولوا على أرضِنا، وشاركَ الخوَنةُ من كلِّ أُمتِنا في حفلِ الاستسلامِ، لكنّ هذا الشريطَ من الأرضِ؛ الذي يسمّى “غزة” هو الوحيدُ الذي وقفَ أمام العالمِ كلِّه ، وتحدّى الجميعَ ، وقال: ” لن نعترفَ بإسرائيل ! “
فماذا تريدونَ من الإعلامِ العربي، أو المصري؟! أنْ يقولوا للناسِ صراحةً : نحن خوَنة ، وأهلُ غزةَ همُ الأبطالُ !
بالتأكيدِ عليهم أنْ يشوِّهوا صورةَ غزة ، ويحاربوها بكلِّ الطرُق، لأنّ اللصَّ لا يحبُ أنْ يُعايرَه الناسُ بفَعلتِه، ويقارنوهُ بالشرفاء، فيسعَى جاهداً أنْ يلوِّثَ كلَّ شريفٍ، حتى تتساوَى الرؤوس .
كيف تُتابعينَ ردودَ الفعلِ العربيةَ والإسلاميةَ؛ على ما يَحدثُ للمسجدِ الأقصى من انتهاكاتٍ وتهويدٍ مستمر؟
الصهاينةُ يستغلونَ فرصةَ انشغالِ الناسِ بالمشاكلِ الداخليةِ في بلادِهم، سواءٌ في مصرَ أو سوريا ، أو العراق .. ويحاولونَ تسريعَ الوتيرة، لتهويدِ القدس ، وفرضِ الأمرِ الواقعِ على الأُمّة ، لكنّ حُبَّ الأقصى والارتباطَ به ، أصيلٌ عند الأُمة ، والدليلُ على ذلك؛ أنّ التونسييّن،على سبيلِ المثالِ ، بعد سنواتٍ من محاولاتِ الإبعادِ عن الدينِ بالكُليَّة ، قاموا بالثورةِ، وبمُجردِ أنْ هربَ الطاغيةُ؛ خرجوا إلى الشوارعِ يهتفونَ ” الشعبُ يريدُ تحريرَ فلسطين “
برأيِّكِ ما هي الوسائلُ العمليةُ، والخطواتُ الفعليةُ، المطلوبُ القيامُ بها من أجلِ نصرةِ القدسِ والمسجدِ الأقصى؟
ما نحتاجُه الآن ؛هو تكثيفُ التوعيةِ لكل الشرائحِ ، لزيادةِ الناحيةِ المعرفيةِ بالقضيةِ الفلسطينيةِ عامةً ، وبالقدسِ بصورةٍ خاصة .
فالمعرفةُ هي أصلُ كلِّ فعلٍ، حتى في العبادة ، فأنتَ تحتاجُ أنْ تعرِفَ “الله” ، حتى تعبُدَه .
وقد تنبّهتْ العديدُ من المؤسساتِ والهيئاتِ لهذا الدورِ، ويحاولون جاهدينَ ابتكارَ الجديدِ من الوسائلِ، لتعريفِ الأُمةِ بمَسرى النبيِّ “صلى الله عليه وسلم” لكننا لا نزالُ نحتاجُ إلى المزيدِ من الجهود .
لماذا لا نرى اهتماماً عربياً ومصريًا على صعيدِ الإعلامِ بقضيةِ القدس، ووضعِها في ذيلِ اهتماماتهم؟
الإعلامُ العربي كلُّه، وعلى رأسهِ الإعلامُ المصري؛ الآنَ مُجنّدٌ لتثبيتِ كراسي الحُكّامِ المتأرجحة، التي طالتْها ثوراتُ الشعوبِ الحُرّة، واليدُ التي تحرِّكُه في المقامِ الأول، هي يدُ المخابراتِ، وغيرُ مسموحٍ له أنْ يتطرّقَ إلى أيِّ قضيةٍ خارجَ الإطارِ المرسومِ له .
وقضيةُ القدسِ تَجمعُ الأُمة ، وتشحَذُ هِمَّةَ الشباب ، وتحثُّهم على مجابهةِ الصهاينة ..
وحالياً هذه كلُّها أمورٌ غيرُ مرغوبٍ فيها ، والأهمُّ الآنَ هو ” كراسي الحُكم ” .
وأين هو دورُ الأزهرِ الشريفِ من ذلك؟
إذا كُنا نقولُ أنّ الإعلامَ اليومَ في مصر، تُحرِّكُه رغباتُ القائمينَ على الحُكم ، فالأزهرُ ليس أفضلَ حالاً ؛ فقد تمَّ تسيِّيسُه منذُ زمن، وشيخُ الأزهر_ كما هو واضح_ أداةٌ من أدواتِهم، وتابعٌ لهم ولتعليماتِهم .
صحيحٌ أنّ عمومَ المشايخِ ليسوا معه، لكنّ أصحابَ القرارِ في الأزهرِ؛ تابعونَ تبعيةً كاملةً لزُمرةِ الانقلاب، فماذا تنتظرون منهم ؟ نصرة الحق !
ولقد حدَّثني أحدُ الشيوخِ؛ بأنهم يتمنونَ تنظيمَ مسيرةٍ من المشايخِ ، إلى مقرِّ شيخِ الأزهر، يطلقونَ عليها “مسيرة القباقيب ” ، أي واللهِ ” القباقيب ” يرفعونَها في وجهِه ، من شِدَّةِ رفضِهم ، وثورتِهم عليه .
ما هو الحلُّ الأمثلُ برأيِكِ للقضيةِ الفلسطينيةِ وعودةِ الحقوق؟
نحن لا نعرفُ حلولاً متعدّدة ، حتى نختارَ من بينِها الحلَّ الأمثل، إنما نعرفُ حلاً واحداً، لا حلَّ سِواهُ ؛ هو ما نعرفه باسمِ ” الحلُّ الصلاحي ” نسبةً إلى صلاحِ الدين ، هو حلُّ “حطين” الذي تمَتْ تجرِبتُه قبل ذلك ، وثَبتَ نجاحُه ، وكلُّ الحلولِ الأخرى؛ ثبتَ أنها فاشلةٌ ، أو لِنَقُلْ أنها ليستْ حلولاً من الأصلِ .