قضايا طبية معاصرة وموقف الإسلام منها

أ. د. محمد حافظ الشريدة
أستاذ الشريعة الاسلامية – جامعة النجاح الوطنية – نابلس
استكمالا لما قد بدأته في المقالة السابقة في الحديث عن قضايا طبية معاصرة وموقف الإسلام منها وخصوصا في موضوع عملية نقل الأعضاء وزراعتها!
فنكمل بالقول،إن نظرة الإسلام إلى الإنسان نظرة متميزة تختلف عن الفلسفات البشرية والمناهج الوضعية والشرائع المحرفة الإلهية. والإسلام يعتبر الإنسان سيّد المعمورة، فهو مزيج من الروح والجسد، وهو بحاجة ماسّة لتلبية متطلبات روحه ونفسه وجسمه وعقله وقلبه، دون أن يطغى جانب منه على جانب.
وقد كرم الله الإنسان كإنسان وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض كي يستفيد من منافعها في ضوء منهج الله. وأنعم عليه
نعما مادية ومعنوية لا تعدّ ولا تحصى.
ومن مقاصد الإسلام الكبرى المحافظة على الدين والنفس والعقل والمال والعرض والنسل، ومعلوم أن الحياة لا تستقيم بدون وجود هذه الضروريات الرئيسة، ومن هنا شرع الإسلام الحدود والقصاص لكل من ينتهك حرمة هذه الضروريات، سـواء كانت تتعلق بحق الفرد أو حق الله المتمثل في حق الجماعة! إن الإسلام يحرّم تحريماً شـديداً المتاجرة بأعضاء الإنسـان نزعاً أو زرعاً في الحياة وبعد الممات، ويعتبر هذه العملية بيعاً أو شراءً إهانة للكرامة الإنسانية، وتتعارض مع قول الله تعالى: { ولقد كرمنا بني آدم } [ سورة الإسراء آية 70 ].
ومعلوم أنّ حرمة المسلم أعظم عند الله من الكعبة المشرفة، ومعلوم كذلك أن الجنة عند أقدام الأمهات! إنّ من محاسن الشريعة الإسلامية أنها صالحة لأي زمان أو مكان أو مجال أو أمة، وأنها قائمة على اليسر والإحسان ورفع الحرج، وأنها اعتنت بالنفس البشرية وحافظت عليها، ودفعت الأذى عنها، وحرّمت الاعتداء المدي والمعنوي المباشر وغير المباشر عليها، وأنها أباحت في حالات معينة تناول المحرمات حفاظاً على أسباب الحياة، قال تعالى { إنّما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه } [ سورة البقرة آية 173 ]. وقال تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً } [ سورة النساء آية 29 ]. ومن القواعد الفقهية المأخوذة من روح الشريعة الإسلامية: “الضرر يزال ” و” ارتكاب أخف الضررين ” و “إذا تعارضت مفسدتان تدفع الأشدّ منهما الأخفّ ” و” أينما كانت المصلحة فثمّ وجه الله ” و” الضرورات تبيح المحظورات ” و”إذا ضاق أمر اتّسع “.
ولقد أمر الإسلام بالتداوي، وبالأخذ بالأسباب، وشجع على الوقاية من المرض من باب: ” درهم وقاية خير من قنطار علاج “، وحثّ على التوكل ونهى عن التواكل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً ” رواه البخاري من حديث أبي هريرة. وقال عليه الصلاة والسلام: ” يا عباد الله تداووْا فإنّ الله عزّ وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً ” رواه أحمد من حديث أسامة بن شريك( رحمه الله)
إنّ عمليات نقل الأعضاء وزراعتها والتبرع بها تقسم إلى:
أ- عملية الزرع الذاتي ( أي نقل جزء من جسم المريض من مكان إلى آخر لضرورة معينة )، وهذه العملية متفق على جوازها.
ب- عملية نقل الأعضاء من الأموات إلى الأحياء(سواء أوصى الميت بذلك أم لم يوصِ) وهذه العملية مختلف فيها بين الفقهاء المعاصرين: فمنهم من حرّمها كالعلامة عبد القديم زلّوم، ومنهم من أباحها بشروط كالعلامة محمد نعيم ياسين، والراجح حسب وجهة نظري جوازها بشروط هي: الضرورة القصوى، وإذن المتبرع، وعدم التمثيل أو الإهانة، وإجازة الورثة ( إن لم يوص الميت بذلك )، وأن تكون العملية بعد التحقّق من الوفاة.
ج- عملية نقل ما يتجدّد من الجسد باستمرار كالدم والجلد ونخاع العظم وهذه العملية متفق على إباحتها.
د- عملية نقل الأعضاء من الأحياء إلى الأحياء، وهذه مسألة خلافية بين العلماء، حيث أباحها جمهورهم، ومنعها بعضهم كالإمام محمد متولي الشعراوي -، والراجح عندي: جوازها بشروط معينة ذكرتها بالتفصيل في بداية حديثي.
هـ- عملية نقل الأعضاء التناسلية ( المذكّرة أو المؤنثة ) من الأحياء إلى الأحياء، أو من الأموات إلى الأحياء: وهذه العملية مجمع على تحريمها لما فيها من اختلاط الأنساب.
و- عملية نقل الأعضاء من الإنسان إلى الحيوان: وهذه العملية مجمع على تحريمها كذلك، لأنها تتنافى مع تكريم الله لبني آدم وتسخير الحيوانات لمنافعهم.
ز- عملية نقل أعضاء الحيوان إلى الإنسان: حيث ذهب جمهور العلماء إلى جوازها عند الضرورة، واشترط بعض الفقهاء أن يكون الحيوان مأكول اللحم.
ح- عملية الانتفاع بالأجنّة البشرية ( الحيّة أو الميتة )، في زراعة الأعضاء للأحياء أو في البحث العلمي، وهذه العملية مسألة خلافية بين العلماء المعاصرين، والراجح عندي جوازها بشروط معينة أهمها: الضرورة الطبية، وموافقة الزوجين على ذلك، وأن تتم عملية النقل والانتفاع قبل نفخ الروح في الجنين.
ط- عملية نقل أعضاء صناعية طبية إلى جسم الإنسان: وهذه العملية مجمع على إباحتها.
وأما الحكم الشرعي فيما لو رفض صاحب العضو التبرع بعضوه إلا مقابل مال يأخذه فالجواب: إذا اضطر المريض لذلك، ولم توجد عنده البدائل الطبية أو الصناعية فيباح له حينئذ شراء العضو أو الدم المطلوب، والإثم في هذه الحالة على البائع أو السمسار، لأن المتاجرة بالأعضاء والدماء حرام، أما الهدية أو المكافأة المادية أو المعنوية أو الرمزية غير المشروطة فهي حلال بلا خلاف، من باب التشجيع على البر والإحسان والتقوى.
نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدارين !