الدين والحياةكتاب الثريا

ما بينَ الإيفاءِ والتبخيسِ

كتب: أ . محمد شفيق السرحي

اقتضتْ الصناعةُ الربّانيةُ في بُنيانِ الإنسانِ؛ أنْ يميلَ بطبيعتِه وتركيبتِه إلى الإنجازِ، وحُبِّ المكافأةِ؛ ولو كانت بأبسطِ الكلماتِ والعباراتِ، وأنْ يبحثَ عمّا يعزِّزُ نجاحاتِه التراكميةِ، ويكافئَ ذاتَه التي تبحثُ عن تقديرِ الذاتِ وانبعاثِها؛ فهذا كلُّه حاجةٌ متأصِّلةٌ في النفسِ البشريةِ الإنسانيةِ، ولا غِنَى لها عن مواصلةِ طريقِها وصراعِها ضدَّ الأمواجِ الدنيويةِ العاتيةِ، ومحاولاتِ طمسِ الذاتِ، وبريقِها ولمعانِها أمامَ الأقرانِ والآخَرينَ.

ذكرَ لنا كتابُ ربِّنا _تبارك وتعالى_ إطاراً عامّاً شاملاً كاملاً ؛ لكافةِ المعاني التي يستغرقُها مفهومُ التبخيسِ والتطفيفِ, والذي لم يقتصرْ على مفهومِ المعاملاتِ الماليةِ والتجاراتِ ” وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ سورة هود85{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( (سورة المطففين:1-2) ومن ضِمنِ أشياءِ الناسِ حقوقُهم المعنويةُ؛ كما حقوقِهم الماديةِ , بل تَدخلُ فيها الأعمالُ والتصرفاتُ، وكذلكَ تقييمُ جهودِ الناسِ، ومعرفةُ منازلهِم، وإنزالُهم إيّاها. والملاحَظُ هنا ارتباطُ هذه المعاني جميعِها بعاقبةِ الفسادِ , والولوجِ إليه من خلالِ منظومةِ التبخيسِ والتبهيتِ من حقوقِ العبادِ الماديةِ والمعنويةِ المختلفةِ , والتي مؤدَّاها إلى الفسادِ في الأرضِ ؛ لِما يترتّبُ عليها من مصالحَ متعدِّدةٍ ومختلفةٍ , وعلى رأسِها تحديدُ الكفاءاتِ , وتسييرُ أحوالِ الناسِ, وتوليةِ الأكِفّاءِ.

ولقد كان من هَدي النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ قولُه الكريم: ” أنزِلوا الناسَ منازلَهم “، وعملياً ما وردَ في السنّةِ المُطهرةِ: حين قال لبني عبدِّ الدارِ يومَ فتحِ مكةَ؛ وهو يُعطي “عثمان بن طلحة” مفتاحَ الكعبةِ:“خذوها خالدةً تالدة،ً لا ينزِعُها منكم إلا ظالمٌ، يا عثمان، إنّ اللهَ استأمنَكم على بيتِه، فكُلوا ممّا يصِلُ إليكم من هذا البيتِ بالمعروفِ“؛ رواية بن سعد في الطبقات.

وقد كان الرسولُ الكريمُ عندما يُحسِنُ صحابيٌّ عملَه؛ يُلقِّبُه بلَقبٍ حسَنٍ، فقد لقّبَ “خالد بن الوليد” سيفَ اللهِ المسلول.

وفي قصةِ الإفكِ، لَمّا اتَّهمَ المنافقونَ عائشةَ؛ سألَ النبي – صلى الله عليه وسلم – ضرَّتَها “زينب” عنها، وكان بإمكانِ “زينب” أنْ تقولَ كلاماً، وتنتهزَ الفرصةَ؛ بل كان يُمكِنُها على الأقلِّ أنْ تؤكّدَ أو تُكرِّرَ ما يُقالُ على الألسُنِ؛ لكنها قالت: يا رسولَ اللهِ أحمي سمعي وبصري، واللهِ ما علِمتُ عليها إلا خيراً، قالتْ عائشةُ: وهي التي كانت تساميني (أي تنافسُني) في المنزلةِ والحظوةِ والمكانةِ عند رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فعَصمَها اللهُ بالورَعِ! .

ممّا يُبنَى على ذلكَ؛ إنصافُ المديرِ لموظَّفيهِ؛ خاصةً عندَ ذِكرِ الإنجازاتِ، وألاَّ يَنسِبُه لنفسِه فقط، وإذكاءُ روحِ التنافسِ فيما بينَهم، فمِمَّا يؤثَرُ عن السلفِ: ” أنّ علياً _رضي الله عنه_ كان يقولُ في خطابٍ وجَّهَه إلى أحدِ الولاةِ: لا يكونُ المُحسِنُ والمُسيءُ عندَك بمنزلةٍ سواءٍ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهلِ الإحسانِ، وإساءةً لأهلِ الإساءةِ، وألزِمْ كُلَّاً منهم ما ألزَمَ نفسَه: أي أنّ عليّاً يُعاملُهم كما أمرَهم أنٍ يعاملوا الناسَ، ويقولُ “عمرُ” بعدَ توَلَّيهِ الخلافةِ: (فمَن يُحسنْ.. نَزِدْهُ، ومن يُسِئْ. نعاقبْهُ)، وأن يعملَ المُربِّي على تحفيزِ المُترَبِّينَ، ويَنسِبَ إنجازاتِهم لذواتِهم، ويُعزِّزَها، وألّا يَبخلَ على أحدٍ منهم بكلمةِ ثناءٍ أو مكافأةٍ؛ ولو كانت معنويةً.

أذكُرُ حينما تقدّمتُ لامتحانِ القبولِ في الدراساتِ العليا , و خرجتْ النتائجُ النهائيةُ للطلبةِ المقبولينِ للدراسةِ , تَزامنَ ذلك برفْعِ تكاليفِ الأقساطِ الجامعيةِ , فإذا ببعضِ الطلبةِ المقبولينَ يعترضونَ أمامَ عمادةِ الكُليّةِ على ذلك , ومنهم مَن انسحبَ من الدراسةِ قبلَ أنْ تبدأَ لهذا السببِ, فإذا ببعضِ الطلابِ يسألُني ويقولُ لي : هل ستواصلُ الدراسةَ في ظِلِّ رفعِ الرسومِ الجامعيةِ؟ , فأجبتُه أمامَ جمعٍ من الطلبةِ وبعضِ العاملينَ؛ بأنه فرصةٌ لا تُعوَّضُ , وسيُعينُنا المَولَى _تبارك وتعالى_ في ذلكَ إنْ شاءَ اللهُ , خاصةً وأني قد حصلتُ على المركزِ الأولِ على المقبولينَ ؛ فإذا بأحدِ العاملينَ يتركُ كلَّ الكلامِ والتفاصيلِ والموضوعَ الرئيسَ , ليُجيبَني , أنّ قائمةَ الأسماءِ المُعلَنةَ , لا اعتبارَ للترتيبِ فيها , وليس بالضرورةِ أنْ يكونَ اسمُك الأولُ في القائمةِ؛ يعني أنك الأولُ على المقبولينَ , فأُسقِطَ في يدَي , وكم نزلتْ عليَّ كلماتُه كالصاعقةِ القاصمةِ! أمامَ الفرحةِ المعنويةِ العارمةِ , بعدَ حالةٍ من الإحباطِ تَملَّكتْني لِبرهةٍ من الزمنِ ؛ بسببِ إخفاقٍ كادَ أنْ يوديَ بسلسلةِ الأحلامِ والطموحاتِ التي كان مُخطَّطاً لها , فردَدتُ عليه بأنه : لعلّه خيرٌ..

والأهمُّ أنْ نخرجَ بإنجازٍ يؤهِلُ لمراحلَ لاحقةٍ , وأنهيتُ حديثي معه ؛ وفي نفسي حديثٌ طويلٌ , اختصرتُه باستحضارِ لحظةِ التتويجِ على منصّةِ التخريجِ , والانتهاءِ من الدراسةِ الجامعيةِ, والتي كانت أهمُّ سماتِها , تعامُلَ كافةِ المحاضِرينَ , والزملاءِ , مع زميلِهم ” الأولِ على المقبولينَ” ؛أنه بالفعلِ, يستحقُ هذا اللقبَ, بفضلٍ من اللهِ ومِنَّةٍ, وأنّ هذا الشخصَ “المُبخسَ ” , لا يَعدو عن كونِه فاقداً لمنطقِ الإيفاءِ والإنصافِ , كان يتمنّى أنْ يكونَ في هذا المكانِ ؛ ولكنْ هيهاتَ..

الإيفاءُ والإنصافُ بحقِّ الآخَرينَ، بالطريقةِ المتوازنةِ المعتدلةِ، ليس بالضرورةِ أنْ يكونَ صناعةً للطغاةِ، والمغرورينَ؛ خاصةً في المواقفِ التي يتطلبُ من أصحابِها، وضعُ الشيءِ في نصابِه، وتمييزُ الجديرِ، مِن الخبيرِ، مِن الوضيعِ , وبأدبٍ رفيعٍ، ومنطقٍ سليمٍ.

ما بينَ الإيفاءِ والتبخيسِ، شعورٌ، أو كلمةٌ وعبارةٌ؛ قد تصنعُ فارقاً كبيراً مع أصحابِها، تؤَثّرُ على حياتِهم الشخصيةِ، أو العلميةِ أو المِهنيةِ؛ فلا يجوزُ البخلُ بهذه المشاعرِ والكلماتِ، استعلاءً، وزوراً وبهتاناً؛ لإثباتِ تَفوُّقِنا واغترارِنا بأنفسِنا على حسابِ الآخَرينَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى