” السعادة” في زواريب “عين الحلوة”.. عاصمة الشتات الفلسطيينى

” السعادة” في زواريب “عين الحلوة”.. عاصمة الشتات الفلسطيينى
62 عاما في مخيمات اللجوء لم تمح من الذاكرة صورة العودة للوطن
أنت لاجئ في لبنان لا تشبه سوى جيوب الفقر التعيسة، يلعب أطفالك في أزقة ليس مؤكداً أن الشمس تجد الطريق إليها، أنت لاجئ ممنوع من العمل؛ وإن صادف ووجدت عملاً خارج أسوارك فالأجر زهيد، أنت لاجئ فحاول ألا تمرض، التأمينات والضمانات الصحية الحكومية لا تشملك، أنت لاجئ يعني أن حقوقك المدنية والإنسانية مهدورة غير معترف بها، أنت لاجئ ملفك الآن على أجندة الحكومة اللبنانية.
اثنان وستون عاماً وعين الحلوة تتربع على شجر الأرز كعاصمة للشتات الفلسطيني، وكل سنة من هذه السنوات سجلاً حافلاً بالمعاناة وألم التشرد والاغتراب، نكبتهم مأساة حقيقية لا تزال نتائجها ومراراتها تنتصب، بينما لا تنقص مساحات الأمل بالعودة إلى الوطن، فالحلم ما يزال دافئاً نديّاً لا يفارق أفئدتهم، تسمعه على ألسنة صغارهم قبل كبارهم.
تحقيق : ديانا المغربي
أُنشئ مخيم عين الحلوة عام 1948، وهو أكبر مخيمات لبنان, يقع جنوب مدينة صيدا, على بعد 3 كم عن قلب المدينة، بلغ تعداد المخيم عام 2003 قرابة 45337 نسمة, وتبلغ مساحته حوالي 420 دونم، يضم المخيم ثمانية مدارس، عدد تلاميذها نحو 6200 تلميذ ـ يتوزعون بمعدل 40-45 تلميذاً في الصف الواحد، ويضم كذلك عيادتان للأونروا، بالإضافة إلى مستشفيين صغيرين للعمليات البسيطة، يعيش سكانه دون حماية أو توفر أدنى مستلزمات الحياة والبقاء، البؤس يكسو سطوح منازلهم بالصفيح المهترئ، وتُحشر بيوته بعضها فوق بعض كأنها مكعبات من الركام المتراصة.
وعلى الرغم من ظروفهم المعيشية الصعبة؛ إلا أن أحلامهم بالعودة يومية يعيشونها في مآكلهم ومشاربهم وأفراحهم وأتراحهم؛ يربطون الوطن عقدة بعقدة؛ وكأن العودة تقرع أجراسها ليلموا ما تبقى من شتاتهم وغربتهم.
“حامضة ولفّانة“
الحاجة الستينية سلوى عودة؛ المهجرة من الجليل الأعلى؛ تعيش في منشية مخيم عين الحلوة منذ 60عاماً، تحمل في قلبها حلماً بأن تعود إلى الوطن يوماً ما، تُعرف بداخل المخيم بزغرودة يطلبها أهله في كل مناسباته “آويها زرعنا رمانة… آويها حامضة ولفّانة… آويها وحلفنا ما ندوقا… آويها حتى نرجع عبلادنا.. آويها فلسطين… بالسلامة”.
وتقول بلكنة تجمع بين اللهجة الفلسطينية واللبنانية: أحلم بالعودة إلى الوطن لأتنسم هواءه، لأعيش مرة واحدة داخل بلدي؛ أحمل اسم مواطنة لي حقوق واجبات، لي حكومة تعنى بشئوني الصحية والخدماتية والتعليمية، مضيفة ” إذا ملّكوني كل أراضي الدنيا فلن أقبل بديلاً عن أرضي فلسطين، ولقد ربيت أولادي على هذا الأمر وأعتقد أنهم سيحافظون عليه”.
وتضيف: حياتنا صعبة للغاية ولا ترتقي إلى أيٍّ من درجات الحياة الكريمة، فمياه الشرب تختلط بمياه الصرف الصحي، مساحات البيوت لا تكفى لممارسة أنشطة الحياة المختلفة، ورغم ذلك قاموا بتقليص هذه الخدمات وزيادة قوانين المنع والتقييد.
وتتابع قائلة: اللاجئون في دول الشتات لا يريدون خدمات ولا أوضاع معيشية جيدة، ويرفضون التوطين، ما نحتاجه فعلاً حق العودة اليوم قبل الغد فلم يتبقَ في العمر بقية.
بنفس حسرة الحاجة سلوى يقول اللاجئ فؤاد عاصي “44 عاماً”، وهو أبٌ لستة أبناء، ويسكن في منطقة السمارية: أن أوضاع اللاجئين في المخيم مأساوية للغاية خاصة في ظل القيود اللبنانية التي تمنع الفلسطينيين من العمل في أكثر من 70 مهنة، لذا ليس بوسعي العمل في أي وظيفة داخل المخيم؛ إذ لا وظائف ولا مصالح، كما أنني عاجز عن العمل خارج بقعة المخيم لأني لا أمتلك المؤهلات المطلوبة.
ويقول عاصي إنه لا يتمكن من تأمين قوت أولاده واحتياجاتهم اليومية، إضافة إلى أن الحياة داخل المخيم لا تؤمن لهم أي حياة صحية ممكنة، فالبيوت الملتصقة والمتراصة والأسطح المهترئة التي لا تحمينا من حر الصيف أو برد الشتاء، علاوة على الرطوبة التي تأكلنا طيلة العام.
ويضيف الحياة داخل المخيم أقل من عادية؛ نواجهها عادة بحلم وأمل لا يغادر تفاصيل يومياتنا، فكلما تراكم بؤس المخيم أمامنا نعزي أنفسنا بأننا غداً عائدون إلى الوطن وكل الوطن، نربى أبنائنا ونلقنهم أحلامنا وأمالنا كما يلقنهم المخيم بؤس الغربة واللجوء.
مهمشون
أما اللاجئ جميل موعد ” 50عاماً ” من “عمقا “، فترفع عن معاناة كل سكان المخيمات و أكد: “إن حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه حق تاريخي لا يزول، وأن اللاجئين يرفضون التجنيس ويعتبرونه مقدمة للتوطين.
ويتابع: ” لقد كان والدي يحدثني عن أرضي، وقد عشت حياتي وأنا أحلم بيوم العودة، ولن أرضى عنه بديلاً”، ورغم وضوح هذه المواقف؛ التي لا يكف اللاجئون عن التعبير عنها في كل مناسبة، فقد مرّت العقود الستة الماضية ونحن مهمشون؛ لا كرامة ولا وطن ولا حياة، تجرعنا البؤس قطرة قطرة، مضيفاً ستة عقود كانت كفيلة لإنهاء معاناتنا، إلا أن أوضاعنا البائسة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وكأن مسلسل اللاجئ الذليل يسعد القيادات العربية واللبنانية.
في حين تقول الحاجة هداية عياد ” 42 عاما”: أن حياة المخيم تعني بؤس العمل والمكان والحياة الاجتماعية، فنحن لا نعرف في الجغرافيا اللبنانية المحيطة أكثر من مساحة المخيم، فمن ليس لديه إمكانية تناول الطعام بالشكل الطبيعي يومياً؛ فحتماً لا إمكانية له على الترفيه والخروج من المخيم.
وتضيف: الحياة داخل المخيم تفتقر إلى أدني مقوماتها، فان مرض أحد أطفالي أجوب المخيم طولاً وعرضاً للحصول له على الدواء، ” هون إذا مرض الواحد بنقول الله بيعوض عليه، المرض مو بس صعب، هون كمان الحشرات والمجاري والضيق والتكدس والكثافة كلها موجودة “.
وتتابع قائلة: “لا شيء داخل المخيم يبشر بأمل، فالأوضاع من سيء إلى أسوأ، الأطفال يكرهون المدارس ويرفضون إكمال تعليمهم لأنه لا قيمة للشهادة بسبب أننا ممنوعون من مزاولة سبعين مهنة، ولا يجدون مكانا للعب، ولا يحصلون على وجبة طعام كاملة، الضياع يلف حياتهم ومستقبلهم، والمؤشرات تقول أن القادم سيكون أسوأ بكثير”.
“الأسبرين والبنادول”
من جهته يقول مدير مؤسسة شاهد لحقوق الإنسان محمود حنفي لـ” السعادة “: إن “مخيم عين الحلوة يلتقي مع باقي المخيمات الفلسطينية في المعاناة الإنسانية، فالظروف السكانية والاقتصادية الاجتماعية والسياسية بالغة التعقيد وكفيلة بأن تجعل الحياة داخله مرعبة”.
ويضيف الكثافة السكانية مرتفعة جداً، في مساحة ضيقة جداً، وهو ما ينتج عنه مشاكل صحية ونفسية واجتماعية هائلة، فمعدل عدد أفراد الأسرة خمسة أفراد، أما معدل عدد الغرف في المنزل الواحد فهو غرفتين. ويعتبر الجانب الصحي الأشد وطأة، والأكثر تأثيراً على اللاجئ فـ” 61% “من الأمراض المنتشرة هي أمراض ضغط الدم والتنفس، ولا تغطى الأونروا كل تكاليف العلاج والفحوص المخبرية، وتفتقر عيادات الأونروا لأدوية الأمراض المستعصية؛ وحتى الأمراض العادية، ويقتصر الأمر على المسكنات والأدوية البسيطة “كالأسبرين” و”البنادول”.
أشار حنفي إلى أن القوانين اللبنانية لا تسمح للفلسطيني بالعمل في المهن الحرة، وهو ما يسد الآفاق أمام طلاب الجامعات، ويشكل عقبة أمام طموح اللاجئين الفلسطينيين، فقد كشفت إحدى الدراسات أن المستوى التعليمي متدني للغاية، حيث أن 6% من أفراد العينة أميون، و4% منهم يلمّون بالقراءة والكتابة، و60% أنهوا صفوف الابتدائي والمتوسط، و13% المستوى الثانوي، و3% جامعيون.
وأضاف أن اليد العاملة الفلسطينية تعتبر منتجة وفعالة، لكن عمل الفلسطيني يتم في لبنان بشكل غير معلن، وقد ظهر من خلال الدراسة ذاتها أن 17% من أفراد العينة لا يعملون أبداً، وأن معظم الأعمال التي يمارسونها هي أعمال حرف يدوية أو أعمال موسمية، إذ تصنف حوالي 1400 عائلة من ضمن حالات العسر الشديد لدى الأونروا، ويضاف إلى هؤلاء النازحون على مراحل بعد النكبة من عام (56- 67)، في حين يقدّر متوسط دخل الفرد بما يقارب الـ 350 ألف ليرة لبنانية شهرياً، أي ما يوازي خط الفقر العالمي، وهذا زاد من معدلات الطلاق والعمالة وارتفاع نسبة العنوسة.
ويتابع قائلا: نتيجة لزيادة عدد سكان المخيم، اضطرت عائلات كثيرة إلى البناء العمودي، لإسكان ولد متزوج حديثاً، ولتجاوز مشكلة الإيجارات، وعدم القدرة على شراء منزل جديد؛ في ظل قانون يمنع الفلسطيني من التملك.
قوانين مجحفة
وبحسب إحدى الدراسات، التي تناولت واقع المعاناة الاقتصادية داخل المخيمات الفلسطينية، فإن فالحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ عام 1948م وحتى اليوم؛ لم تتوانَ يوماً عن اتخاذ أشد الإجراءات والقوانين التي تحد من التنقل والإقامة والعمل للفلسطينيين، ومنها القرار رقم 319 عام 1962م الذي صدر عن وزارة الداخلية اللبنانية؛ ويصف اللاجئين الفلسطينيين بأنهم فئة من الأجانب، ويجب عليهم الحصول على إذن عمل قبل مزاولة أية مهنة، ثم قانـون أمـين الجميِّل رقم 2891 عام 1982م الذي منع الفلسطينيين من ممارسة 57 مهنة ووظيفة، وما تلاها من قانون وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة الحريري الذي رفع عدد المهن والوظائف المحرَّمة على الفلسطينيين إلى 75 مهنة ووظيفة، ولهذا القوانين تبعات هامة من حيث الحد من طموح وتطلعات اللاجئ في بناء مستقبله.
وتذكر الدراسة أن (20.000) لاجئ فلسطيني غير مسجلين لدى مديرية اللاجئين الفلسطينيين التابعة لوزارة الخارجية اللبنانية، وليس لديهم أوراق ثبوتية، مما يؤدي إلى حرمان أطفالهم من كل الحقوق المدنية حتى من الدراسة.
وتضيف الدراسة أن أكثر القوانين إجحافاً صدر عن الحكومة اللبنانية عام 2001، وبمقتضاه يُمنع الفلسطيني من حق التملك في لبنان ولو على متر مربع واحد، هذا ناهيك عن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة يوماً بعد يوم؛ بسبب ارتفاع نسبة البطالة في أوساط المخيمات إلى نسبة 48% بشكل عام، في حين تصل في بعض المخيمات إلى 95%، إضافة إلى بعض القرارات التي تحرم اللاجئ من المساعدات القضائية، وهي عبارة عن مساعدة مالية لمن لا يستطيع أن يحضر محامياً يمثله أمام المحكمة، ولذلك فإن الفلسطيني في هذه الحالة أمام أمرين، إما أن يمثل أمام المحاكم بدون محام أو أن يبقى محتجزاً أطول من المدة المقررة.
في حين يقول تقرير للمؤسسة الفلسطينية لحقوق الانسان (شاهد)، أن أبرز معالم الوجه الإنساني لمخيم عين الحلوة الكثافة السكانية العالية على بقعة جغرافية محدودة؛ وما لها من آثار سلبية على العلاقات المجتمعية وتكريس الأمراض نتيجة الرطوبة المرتفعة، إذ يقدر عدد السكان بما يزيد عن ال 70000 نسمة على مساحة محدودة، بينما تقدر الأونروا عدد السكان بحوالي45000 نسمة على مساحة تقدر ب 0.8 كلم مربع، مما يعني عملياً أن الكثافة السكانية تبلغ 17 نسمة على المتر المربع الواحد.
بين النفي والمعاناة
ويتطرق التقرير إلى الواقع الصحي وانتشار أمراض التلاسيميا والسكري والضغط بشكل واسع ليصبح أحد أهم التحديات التي تواجه سكان المخيم متمثلاً في ارتفاع حاجات الناس الطبية وكثرة الأمراض، وتداخل شبكة مياه الشرب مع شبكة الصرف الصحي.
فالمريض في مخيم عين الحلوة يضطر لأن يسلك طريقاً صعباً لإجراء عملية جراحية، خصوصاً إذا كانت غير مشمولة من قبل الأونروا، فضلاً عن أن اكتظاظ المنازل وانعدام الشروط الصحية للبناء يترك أثراً مباشراً على صحة وحياة السكان.
ويعرج التقرير، الذي يرصد واقع المعاناة، على أوضاع التعليم الذي يسير خطوة إلى الوراء، إذ تعاني المسيرة التعليمية في المخيم من صعوبات حقيقية، ابتدءاً من سياسية الأنروا التربوية (نظام الدوامين، الترفيع الآلي، اكتظاظ الصفوف الدراسية)، وارتفاع نسبة التسرّب في العملية التعليمية برمتها؛ بسبب قوانين المنع اللبنانية، وحالة الفقر المدقع الذي تعيشه العائلات الفلسطينية.
في حين طالب تقرير بعنوان “اللاجئون بين النفي والمعاناة”، صادر عن منظمة العفو الدولية، الحكومة اللبنانية اتخاذ خطوات ملموسة لوضع حد لجميع أشكال التمييز ضد اللاجئين الفلسطينيين ولحماية حقوقهم الإنسانية.
وحثت المنظمة الحكومة اللبنانية على اتخاذ تدابير سريعة لإلغاء جميع أشكال التمييز ضد اللاجئين؛ لتمكينهم من ممارسة حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مستنكرة استمرار القيود اللبنانية التي تحرم الفلسطينيين من حقهم في العمل والتعليم والسكن والصحة .
وأقرت أن معاناة اللاجئين الفلسطينيين تتجاوز حدود لبنان، وتقع على عاتق المجتمع الدولي، الذي تقاعس طوال ما يقارب 62 عاماً عن إيجاد حل دائم لمحنة اللاجئين الفلسطينيين، أو عن توفير حماية كافية لحقوقهم كلاجئين”.
ويبقى الحديث أن معاناة لاجئي عين الحلوة نموذج لمسلسل المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في كافة مخيمات الشتات على اختلاف أماكن تواجدها؛ فالجامع الأساسي والمشترك بينها هو المعاناة والغربة، وإن اختلفت درجاتها ومستوياتها. ولكن حلم العودة لديهم يبقَى المعادل الموضوعي الذي يخفف عنهم هذه المعاناة ومسلسل المآسي المتراكمة.