الإخلاصُ أوِ الإفلاسُ

أ. د. خالد يونس الخالدي- رئيسُ مركزِ التأريخِ والتوثيقِ الفلسطينيّ
إنّ أكبرَ مصيبةٍ يمكنُ أنْ تصيبَ الإنسانَ، وأعظمَ خسارةٍ يمكنُ أنْ يخسرَها ،هي أنْ يكونَ عاملاً مجداً متقناً متفانياً في عملِه، ثم يأتيَ يومَ القيامة مُفلساً، لا يجدُ على عملِه حسنةً تنقِذُه من النار، أو أنْ يكونَ عابداً مؤدّياً للفرائضِ، مُكثِراً من النوافلِ والطاعاتِ والصدقات، ثم يتبيّن له يومَ القيامةِ أنّ اللهَ تعالى لم يتقبلْ عبادتَه، أو أنْ يكونَ مجاهداً غازياً مُعرِّضاً نفسَه للخطر، ثم يُقالَ له يومَ القيامةِ: خذوهُ إلى النار.
إنّ هذا المصيرَ الخطيرَ مُعرَّضٌ له كلُّ من لا يخلصُ النيّةَ في عملهِ للهِ عزَّ وجلَّ. يقولُ الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا}، ويقولُ النبيّ “صلى الله عليه وسلم” في الحديثِ الصحيح:( إنّ أولَ الناسِ يُقضَى يومَ القيامةِ عليه رجلٌ استُشهدَ، فأتي به، فعرّفه نِعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنكَ قاتلتَ لأنْ يقالَ جريءٌ، فقد قيلَ، ثم أمرَ به فسُحبَ على وجههِ، حتى أُلقيَ في النار، ورجلٌ تعلّم العلمَ وعلّمَه وقرأ القرآنَ، فأُتي به فعرّفه نِعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلمَ وعلّمتُه، وقرأتُ فيك القرآنَ، قال: كذبتَ، ولكنك تعلّمتَ العلمَ ليُقالَ عالِم، وقرأتَ القرآنَ ليقالَ هو قارئ، فقد قيلَ، ثم أمرَ به فسُحبَ على وجههِ حتى أُلقي في النار، ورجلٌ وسّعَ اللهُ عليه وأعطاهُ من أصنافِ المالِ كلِّه، فأُتي به، فعرّفه نِعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أنْ يُنفقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال كذبتَ، ولكنكَ فعلتَ ليُقالَ هو جوادٌ، فقد قيلَ، ثم أمرَ به فسُحبَ على وجههِ، ثم أُلقي في النار) .
لا نجاةَ واللهِ من هذا الخطرِ العظيمِ؛ إلا بالإخلاصِ للهِ عزَّ وجلَّ في أعمالِنا كلِّها، وألاّ نقصدَ بأعمالِنا أحداً أو شيئاً غيرَه سبحانه، فلا بدّ قبلَ أنْ نُقْدِمَ على أيِّ عملٍ؛ أنْ نتوقّفَ ونستشعرَ النيّةَ الخالصةَ للهِ وحدَه، وليكنْ شعارَنا دائماً قولُ الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
ولنتذكرْ أنّ العملَ مهما كثُرَ، ومهما أُتقنَ، لا يُقبلُ عند اللهِ؛ إلا إذا كان خالصاً لوجهِه الكريم، قال عليه الصلاةُ والسلام: ( تُعرضُ أعمالُ بني آدمَ بين يدي اللهِ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ في صُحفٍ مختتمةٍ، فيقولُ الله: ألقُوا هذا واقبلوا هذا، فتقولُ الملائكة: يا ربّ واللهِ ما رأينا منه إلا خيراً، فيقول: إنَّ عملَه كان لغيرِ وجهي، ولا أقبلُ اليومَ من العمل إلا ما أُريدَ به وجهي) .
وقال عليه الصلاة والسلام:( إنّ الله تعالى يقول: أنا خيرُ شريكٍ، من أشركَ بي فهو لشريكي، يا أيها الناسُ أخلِصوا أعمالَكم لله، فإنّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلا ما خلصَ له، ولا تقولوا هذا للهِ والرحم، فإنه للرحمِ، وليس للهِ منه شيء، ولا تقولوا هذا للهِ ولوجوهِكم، فإنما هو لوجوهِكم وليس للهِ فيه شيء ) .
وحقيقةُ الإخلاصِ يبيّنُها النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ( ولا يبلغُ العبدُ حقيقةَ الإخلاصِ؛ حتى لا يحبَّ أنْ يُحمَدَ على شيء عُملَ للهِ عزَّ وجلَّ).
وعن أبي أُمامة قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ رجلاً غزا يلتمسُ الأجرَ والذِّكرَ، ما له؟ فقال: لا شيءَ له، فأعادها ثلاثَ مرات، يقولُ له رسولُ الله: لا شيءَ له، ثم قال: إنّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلاّ ما كان له خالصاً، وابتُغيَ به وجهُه).
وقد علّمنا رسولُنا الكريمُ كيف نُخلصُ للهِ ونتقي الشِّركَ، فعن أبي موسى الأشعري قال: خطبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم فقال: أيها الناسُ اتقوا هذا الشركَ، فإنه أخفَى من دبيبِ النمل، فقال له من شاءَ اللهُ أنْ يقولَ، وكيف نتقيهِ وهو أخفَى من دبيبِ النملِ يا رسولض الله؟ قال: قولوا: اللهمَّ إنا نعوذُ بكَ من أنْ نشرِكَ بكَ شيئاً نعلمُه ونستغفرُك لما لا نعلمُ) .
وعن أبي الدرداء أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنّ الاتقاءَ على العملِ أشدُّ من العمل، إنّ الرجلَ ليعملُ فيكتبُ له عملٌ صالحٌ معمولٌ به في السرِّ، يضّعفُ أجرُه سبعينَ ضعفاً، فلا يزالُ به الشيطانُ حتى يذكرَه للناس، فيكتبُ علانيةً، ويُمحَى تضعيفُ أجرِه كله، ثم لا يزالُ به الشيطانُ حتى يذكُرَه للناسِ ثانية، ويحبُّ أنْ يُذكرَ ويُحمدَ عليه، فيُمحَى من العلانيةِ، ويُكتبُ رياءً، فاتقَى اللهَ امرؤٌ صانَ دينَه، فإنّ الرياءَ شِركٌ) .
أمّا إذا علمَ الناسُ بالعملِ الصالحِ من غيرِ العامل، فإنّ ذلك بُشرى خيرٍ للمؤمن، فعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئلَ عن الرجلِ يعملُ العملَ للهِ من الخير، يحمدُه الناسُ عليه، فقال: تلك عاجلُ بُشرى المؤمن) ، وعن أبي هريرة أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله الرجلُ يعملُ فيُسِرّه، فإذا اطُّلِع عليه أعجبَه، فقال: له أجرانِ، أجرُ السرِّ وأجرُ العلانية).
وقد برئ اللهُ عزَّ وجلَّ من العاملينَ غيرِ المخلصين، فقال عليه الصلاة والسلام: يقولُ اللهُ عزَّ وجل:( كلُّ من عملَ عملاً أرادَ به غيري فأنا منه بريءٌ).
اللهمَّ اجعلنا من عبادِكَ المخلِصينَ المخلَصينَ.