سنن الله في ابتلاء عباده المؤمنين

د. صالح الرقب أستاذ مشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة – كلية أصول الدين الجامعة الإسلامية
إن من السنن الكونية وقوع البلاء على المخلوقين اختباراً لهم, وتمحيصاً لذنوبهم, وتمييزاً بين الصادق والكاذب منهم قال الله تعالى:(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، وقال تعالى(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وقال تعالى(الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط”، وأكمل الناس إيمانا أشدهم ابتلاء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”. أخرجه الإمام أحمد وغيره.
ألم تَرَ كيف ابتلى الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فابتلي آدم عليه السلام بالسراء فكرمه وأسجد له الملائكة، ثم ابتلاه بالضراء فأهبطه من جنة عدن إلى دار الهم والغم و الحزن. وابتلى نوحاً عليه السلام في أهله وولده بكفرهم وصدهم عن سبيل الله وإعراضهم عن دعوته إلى دين الله، وأي ابتلاء أعظم من أن يرى الأب ابنه يغرق أمامه في موج كالجبال مع من كفر من قومه، وهو لا يملك صرف الضر عنه ولا تحويلاً .
وابتلي إبراهيم عليه السلام في أبيه الذي كان يصنع أصناماً تعبد من دون الله، وابتلي في جسمه فقذف في النار، وابتلي في ولده وفلذة كبده فأمر بذبحه، وابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص، وهو تحميله أمانة الإمامة، حيث قال تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة : 142 .وابتُليَ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام بأقوام لا يرعون ذمة ولا حرمة فقتلوا أنبياءهم وحرفوا كتبهم وشرائعهم، وكان من آخر من قَتَلوا يحيى وزكريا عليهما السلام. وابتلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته حينما قال إخوته : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يوسف: 77، وأُلقِيَ في غيابة الجب كما تلقى الأحجار، وبيع في سوق النخاسة كما يباع العبيد، وشري بثمن بخس دراهم معدودة، وكان من اشتراه فيه من الزاهدين، وخدم في البيوت كما يخدم العبيد، واتهم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء؟ وألقي بسببها في السجن كما يلقى المجرمون، فلبث فيه بضع سنين، هذه حياة الأنبياء، وهذه نماذج من ابتلاء الله تعالى لهم، ومن تأمل ما لحقهم من صنوف البلاء لوجد عامته من الابتلاء بالشدائد والمحن، ولا يخرج عن ذلك إلا صور معدودة جاءت مقرونة بالعز والتمكين كما في قصتي داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام .
ومن الملاحظ أيضاً ابتلاء الكثيرين منهم في ولده لأن الولد أقرب الناس إلى أبيه، ومصاب أبيه فيه جلل.
فهذا آدم عليه السلام؛ يقتل أحد ولديه أخاه في أول جريمة عرفتها البشرية في إراقة الدماء، وهذا نوح عليه السلام؛ يحول الموج بينه و بين ولده فيكون الولد من المغرقين على مرأى الأب ومسمعه ، وهو ينهى عن التدخل لإنقاذه ويقال له:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] ؛ لكفره وإعراضه عن دين الله .وهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ولده البار إسماعيل فيسن شفرته ويتُلُّهُ للجبين امتثالاً لأمر رب العالمين، فيكاد يذبحه لولا ما تداركه ربه به من الفداء بذبح عظيم .وهذه أم موسى تبتلى في ابنها موسى الكليم عليه السلام فلا تجد بداً من إلقائه في اليم، وقلبها يتفطر حزناً عليه .ثم يبتلى موسى الكليم بقتلة الأنبياء من بني إسرائيل من جهة، وبالفراعنة الأشداء من جهة أخرى، فيهدد بالقتل، ويخرج من بلدته خائفاً يترقب، والملأ يأتمرون به ليقتلوه، وتتوالى عليه الأيام؛ وهي حبلى بالأحداث وصنوف البلاء بعد بعثته، من ملاحقة فرعون وملأه لموسى ومن معه إلى اليمّ، إلى ارتداد قومه واتخاذهم العجل، حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحات سيرته التي كادت تذهب بالقرآن لكثرة أحداثها، من صنف من صنوف الابتلاء .وتُبتلى الطاهرة البتول مريم العذراء فتضع طفلاً نبياً من غير أب، وتؤذى بسببه، فيتسلط عليها اليهود و يتهمونها في عرضها، وهي الصديقة الطاهرة المطهرة. وُبتلي محمد في أبنائه الذكور خاصة فلا يعيش له منهم أحد، حتى سماه المشركون أبتراً، وهو صابر محتسب يجود ابنه إبراهيم بنفسه بين يديه الشريفتين ، وهو لا يزيد على أن يقول وعيناه تذرفان الدموع : (إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون) و(لا نقول إلا ما يرضي ربنا (
وللابتلاء عدة فوائد للعبد المسلم منها: تكفير الذنوب ومحو السيئات. ورفع الدرجة والمنزلة في الآخرة. والشعور بالتفريط في حق الله واتهام النفس ولومها. وفتح باب التوبة والذل والانكسار بين يدي الله. وتقوية صلة العبد بربه. وتذكر أهل الشقاء والمحرومين والإحساس بألآمهم. وقوة الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر الا الله. وتذكر المآل وإبصار الدنيا على حقيقتها.
لذا فكن أخي المسلم صابراً وراضياً بما يصيبك من البلاء، وشاكراً لربك تعالى على نعمة البلاء، فغيرك منها محروم. فإنَّ حكمة الله اقتضت اختصاصك غالباً بنزول البلاء تعجيلاً لعقوبتك في الدنيا أو رفعاً لمنزلتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد”.
ومما يؤسف له أن بعض المسلمين ممن ضعف إيمانه إذا نزل به البلاء تسخط وسب الدهر, ولام الله خالقه في أفعاله، وغابت عنه حكمة الله في قدره واغتر بحسن فعله فوقع في بلاء شر مما نزل به وارتكب جرماً عظيماً.
ومن الأمور التي تخفف البلاء على المبتلى وتسكن الحزن وترفع الهم وتربط على القلب:
(1) الدعاء: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإذا كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه، لكن يخففه ويضعفه، ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة.
(2) الصلاة: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا حزبه أمر فزع الى الصلاة.
(3) الصدقة” وفى الأثر “داوو مرضاكم بالصدقة”
(4) تلاوة القرآن: “وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين”.
(5) الدعاء المأثور: “وبشر الصابرين الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون”، وما استرجع أحد في مصيبة إلا أخلفه الله خيرا منها.