الدين والحياة

أسرار الابتلاء

بقلم : د. ماهر أحمد السوسي

أستاذ الفقه المقارن – كلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.

إن الابتلاء هو سنة من سنن الكون، وهو سنة لا تتخلف، دلّ على ذلك قول الله تعالى في كتابه العزيز: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، و(َلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، وكذلك: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

إن تأمل هذه النصوص يؤدي إلى أن الله تعالى قد جعل الابتلاء سنة مستمرة من سنن الكون، فهو يقول في الآية الأولى، إن كل ما على وجه الأرض من زينة وزخرف، وكل ما يشتهيه الإنسان إنما هو اختبار للإنسان، وامتحان له، حتى ينظر الله أي الناس أحسن عملاً، وهل يستطيع الإنسان أن يطيع الله تعالى رغم كل هذه المغريات.

وفي الآية الثانية يقول الله تعالى أنه قادر على أن يجعل الناس أمة واحدة، ولكن جعلهم شعوباً وقبائل، حتى ينظر كيف يتعامل بعضهم مع بعض، وهل يتبعون منهج الله في علاقاتهم.

وفي الآية الثالثة: إن الموت هو ابتلاء للإنسان، وكذلك الحياة هي ابتلاء له، وكلاهما خلقه الله تعالى من أجل ذلك.
وما على الأرض من زينة هو أمر دائم لا ينتهي، وكون الناس أمم مختلفين هو أمر دائم كذلك، والموت والحياة، قضى الله بهما على الناس جميعاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، من أجل ذلك كله فإننا نقول إن الابتلاء هو سنة من سنن الكون.

ولكن لماذا الابتلاء؟

الابتلاء إما امتحان من الله للعبد واختبار له، وإما تكفير ذنوب، وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع بشكل عام؛ بمعنى أنه كما يُبتلى الأفراد، تبتلى المجتمعات أيضاً.

والحكمة من كون الابتلاء هو امتحان واختبار؛ هي تمحيص العباد، والتمييز بين المطيع لله تعالى، ومن يعصاه، وفي ذلك يقول الله عز وجل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، أي لقد فرضنا عليكم الجهاد، حتى نعلم من يطيع الله فيجاهد، ومن يعصاه فيمتنع عن أداء هذا الفرض.

وكذلك قول الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)، أي لن تدخلوا الجنة حتى تبتلوا بالسراء والضراء، ويرى الله هل تصبرون على ذلك فتدخلون الجنة، أم لا تصبروا فتكونوا من أهل النار.

وكذلك فالابتلاء رحمة الله تعالى، فهو يزيد في حسنات العباد، حيث جاء في الحديث عن السيدة عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ وَجَعٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا أَوِ النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا”، وما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ مِنْ خَطَايَاهُ”، ومثل هذا كثير في القرآن والسنة، وكله يدل على أن الابتلاء هو تكفير لذنوب الإنسان، أو زيادة له في الأجر، والله تعالى أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى