فلسطين تجمعنافلسطينياتكتاب الثريا

حكايتي..

بقلم: د. عطا الله أبو السبح

شاءَ اللهُ أنْ تلِدَني المرحومةُ أمي؛ قبلَ خمسةٍ وأربعينَ يوماً من يومِ أنْ اضطّرَ أهلُ “السوافير الشرقي”إلى ترْكِ منازلِهم، وأراضيهم؛ هروباً من نيرانِ العصاباتِ الصهيونيةِ، وما سبقَها من إشاعاتٍ حولَ إجرامِهم؛ والذي أصبح من المسلّماتِ بعدَ مذبحةِ “دير ياسين”، وقد تمثّلَ في ذبحِ الأطفالِ والشبابِ، واغتصابِ الصبايا، ونهْبِ المواشي والخوابي، وسرقةِ ذهبِ العرايس، ومصاغاتِ النساءِ، ولأنّ لأبي خمسَ بناتٍ، جِئنَ إلى الدنيا تباعاً، ولم يفصلْ بينهنَّ ولدٌ ذكَرٌ؛ فقد هانت عليه الدارُ، والبقرةُ التي اشتراها فرحاً منذُ أشهرٍ قليلةٍ! وهانت عليه أبراجُ الحمامِ رغمَ امتلائها بالزغاليلِ، التي لم تشفعْ لها زقزقاتُها لدَى أبي، الذي عقدَ اليمينَ على أنْ يحميَ عِرضَ بناتِه، ويَحولَ دونَ ذبحي وأخواتي على يدِ الهاجاناه،

خرجتْ أمي والرعبُ يلاحقُها على بناتِها اللاتي، كما كانت متيقنةً من أنهن سيُغتصبنَ لا محالةَ؛ إنْ بقيتْ وقتاً يسمحُ لها أنْ تَعلفَ حماماتِها، أو تغيّرَ الماءَ للطيورِ الداجنةِ، وقد أخفقتْ في أنْ تملكَ كيانَها من الرعشةِ التي ضربتْ كيانَها وأسنانَها من الاصطكاكِ، ولم تستطعْ تحتَ إلحاحِ أبي، وصرخاتِ الرعبِ من أخواتي، وبكائي الذي ملأ الجوَّ من حولِها، وسؤالِها الذي يضجُّ بصدرِها عن ابنِها البِكر، لم تستطعْ أنْ تغيّرَ لي ملابسي، وانتشلتني، وانطلقتْ برُعبِها، وقد تشبثتْ ثلاثٌ من أخواتي في ثوبِها، وتركتْ لدموعِها سبُلَ الوصولِ إلى صدرِها، وحملَ أبي ما بقيَ من قدرتِه على التحمُّلِ بشيءٍ من التمتمةِ والاستعجالِ، ناظراً برُعبٍ لبنتَيهِ اللتينِ جاءتا على التوالي قبلَ خمسَ عشرةَ سنةً، واثنتَي عشرةَ سنةً،

أخذَ هذا الموكبُ المرعوبُ يجري حافياً على الأرضِ المحروثةِ الملتهبةِ؛ حتى بلغَ الإعياءُ من أمي مَبلغَه، فأشارتْ على والدي أنْ يأخذوا شيئاً من الراحةِ، فاستجابَ، فهبطتْ وأنزلتْ سريري الخشبي الثقيلَ من على رأسِها، بينما عويلي الذي لا ينقطعُ جعلَها تلقِمُني كفَّها؛ خشيةَ أنْ يسمعَ(اليهودُ) عويلي؛ فسيتدِلونَ علينا، فيأتونَ لخطفِ أخواتي، وهو ما اعتملَ في صدرِ أبي، الذي نهرَها بصوتٍ مكبوتٍ؛ (أَسكِتي هالمسخوط)، وما لبثتْ راحتُنا حتى سمعَ الموكبُ صوتَ رصاصٍ آتٍ من قريبٍ، ليَفِروا ويتركوني بعدَ أنْ ذُهلوا عني، إلى أنْ أفاقتْ أختي ذاتُ الاثنتَي عشرةَ عاماً!!!!!! فرجعتْ وانتزعتني بسرعة خاطفةٍ، لتلحقَ بأهلي.

كثيراً ما عيّرتني أختي بموقفِها البطولي ذاك، خاصةً عند أيِّ اختلافٍ بينَنا بعدَ أنْ كبرنا، فتقول: لولاي لأكلتكِ الواويات، لأغيبَ معها في موجةٍ من الضحكِ الهستيري أحياناً، لقد سمعتُ من أمي وأخواتي هذه الحكايةَ مراتٍ ومرات، الأمرُ الذي زرعَ في وجداني أنّ لنا وطناً قد اغتصبَه مِنا اليهودُ، كما زرعَ في قلبي الحبَّ لأخواتي، والخوفَ عليهنّ من نظرةِ غريبٍ، ففد يكونُ يهودياً أو عميلاً لهم، وصرتُ أحملُ الهَمَّ مع أبي المطرودِ؛ كي أُحقِقَ لنا شيئاً من الحياةِ التي كان يحياها هناك.

ومن يومِها، إلى يومِنا هذا؛ لا أرى إلا دماءَنا على أيدي اليهودِ، خاصةً دماءَ عمتي وأشلاءَها التي بعثرتْها قذيفةُ مدفعٍ يهودي، ولا تزالُ زقزقاتُ الزغاليلِ تناديني!!!!!!

لم أتميّزْ عن رفاقِ الطفولةِ في أنّ أختي حرّمتْ بَدني على الواوياتِ، إذ وجدتُ لكُلٍ واحدٍ منهم حكايةً لا تبتعدُ كثيراً عن حكايايَ .
وإلى هنا أتوقفُ إلى أنْ نلتقيَ؛ إنْ ظلَّ في العمُرِ بقيةٌ، فإلى المُلتقى..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى