الدين والحياةكتاب الثريا

“التكافلُ يُثبِّتُنا على الحقِّ، فلا نتنازلُ عن الحقوقِ والثوابت”

الكاتب- د. عبد الفتاح غانم رئيسُ لجنةِ الإفتاءِ بجامعةِ الأقصى.

لقد عنيَ الإسلامُ بالتكافلِ الاجتماعي بشكلٍ عام؛ ليكونَ نظاماً لتربيةِ روحِ الفردِ وضميرِه وشخصيتِه وسلوكِه الاجتماعي، وأنْ يكونَ نظاماً لمجتمعٍ متعاونٍ متكافلٍ؛ من خلالِ البرِّ والإحسانِ والصدقةِ والزكاةِ، ولقد شرعَ الإسلامُ العباداتِ؛ ليكونَ لها أثرٌ في حياةِ المسلمينَ، وانظرْ إلى قولِه  تعالى: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ *فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ] سورة الماعون، فما الفائدةُ في صلاةٍ لا تجدُ لها أثراً في الحياةِ الاجتماعيةِ، بل الآثارُ تدلُّ على فسادِ قلوبِ الذين يمنعونَ خيرَهم عن المحتاجينَ إلى معونتِهم ومساعدتِهم، ولا يقومونَ بما يجبُ عليهم تُجاهَ إخوانِهم في العقيدةِ من المحتاجينَ والمعوَزينَ؛ وذلك بمَدِّ يدِ العونِ لهم.

إنّ التكافلَ الاجتماعيَ يعني أنْ يتضامنَ أبناءُ المجتمعِ، ويتساندوا فيما بينَهم؛_سواءٌ أكانوا أفراداً أو جماعاتٍ، حُكاماً أو محكومينَ_ على اتخاذِ مواقفَ إيجابيةٍ كرعايةِ اليتيمِ، أو سلبيةٍ كتحريمِ الاحتكارِ؛ بدافعٍ من شعورٍ وجدانيٍّ عميقٍ؛ ينبعُ من أصلِ العقيدةِ الإسلاميةِ؛ ليعيشَ الفردُ في كفالةِ الجماعةِ، وتعيشَ الجماعةُ بمؤازرةِ الفردِ؛ حيثُ يتعاونُ الجميعُ ويتضامنونَ لإيجادِ المجتمعِ الأفضلِ، ودفعِ الضررِ عن أفرادِه.

لقد حرصَ الإسلامُ على بناءِ مجتمعٍ قويٍّ قادرٍ على مواجهةِ التحدِّياتِ والأزماتِ المختلفةِ، مجتمعٍ حضاريٍّ راقٍ، يرحمُ القويُّ فيه الضعيفَ، ويعطفُ الغنيُّ على الفقيرِ، ويعطي القادرُ ذا الحاجةِ، كما يحرصُ على بناءِ مجتمعٍ أخلاقيٍّ متقاربٍ ومتحابٍّ ومتعاونٍ على الخيرِ وفعلِ المعروفِ، ومن ثَمَّ جَاءَ بمنهجٍ رائعٍ في بناءِ المجتمعِ البشريِّ كُلِّه، وجَعْلِ كلِّ فردٍ فيه متعاونًا مع غيرِه على الخيرِ العام، مُغِيثًا له حالَ الحاجةِ والاضطرارِ.

والتكافلُ الاجتماعيُّ في مغزاهُ ومؤدّاهُ؛ أنْ يحسَّ كلُّ واحدٍ في المجتمعِ بأنّ عليه واجباتٍ لهذا المجتمعِ؛ يجبُ عليه أداؤها.. وأنه إنْ قصّرَ في أدائها؛ فقد يؤدّي ذلك إلى انهيارِ البناءِ عليه وعلى غيرِه، وأنَّ للفردِ حقوقاً في هذا المجتمعِ؛ يجبُ على القائمينَ عليه أنْ يُعطوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه من غيرِ تقصيرٍ ولا إهمالٍ، وأنْ يدفعَ الضررَ عن الضعفاءِ، ويسدَّ خلَلَ العاجزينَ، وأنه إنْ لم يكنْ كذلك؛ سيضعفُ المجتمعُ وقد ينهارُ.

وقد أكّدتْ النصوصُ الصريحةُ من القرآنِ والسُنةِ؛ أنّ المجتمعَ الإسلاميَ يقومُ على التكافلِ والتعاونِ؛ بل ولا يكونُ المجتمعُ إسلامياً بالمعنَى الشاملِ؛ إلّا إذا كان متكافلاً تسودُه المحبةُ والوئامُ، وتنتشرُ في سمائِه العدالةُ، ويظهرُ بينَ أوساطِه الإيثارَ ، ومن ذلك يقولُ تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] سورة المائدة آية 2. ويقولُ صلّى الله عليه وسلم: “تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ، وَتَوادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ. إِذَا اشْتَكَى عضْوًا، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى”، رواه البخاري، وهذا -لا شك- ينعكسُ على سعادةِ وأمنِ واستقرارِ المجتمعِ.

ومظاهرُ التكافلِ التي بيَّنَها الإسلامُ؛ تتجلَّى مثلاً في العيدِ؛ فهو مِن أوضحِ مظاهرِ التكافلِ المجتمعي، ففي عيدِ الفطرِ يفرضُ الإسلامُ على المسلمينَ أنْ يدفعوا زكاةَ الفطرِ للفقراءِ والمساكينِ، يقولُ ابنُ عباس رضي الله عنهما: ” فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ” صحَّحه الألباني.

وقد فرضَها الشرعُ على كلِّ المسلمينَ المالكينَ لِما يزيدُ عن قُوتِهِم وقوتِ أولادِهم يومًا وليلة؛ وهذا يعني أنّ جُلَّ المسلمينَ يستطيعُ أداءَها، وبذلك يشتركُ المجتمعُ المسلمُ كلُّه في عمليةِ العطاءِ هذه، ويظلِّلُهم فيها كلامُ الرسولِ  الذي يرقِّقُ قلوبَهم، ويحثُّهم على الإنفاقِ؛ حيثُ يقول: “أَغنوهم في هذا اليومِ”، يقصدُ الفقراءَ. ويقولُ أيضًا: “أغنوهم عن طوافِ هذا اليومِ”، أي عن البحثِ عن الصدقةِ والعطايا.

وكذلك من عظمة الشريعة أنها حثَّت على الأضحية في عيد الأضحى، فهذا يومُ عيدٍ لدَى المسلمينَ، ولا يجبُ أنْ يَشعرَ الفقيرُ فيه بالحاجةِ والعَوَزِ؛ لذلك كان توزيعُها يحملُ في جوهرِه تكافلاً؛ تفيدُ منه الجماعةُ ماديًّا وخُلُقيًّا.

وذلك ليتحرَّى المسلمُ في احتفالِه بالعيدِ عن ذوي الحاجةِ والبائسينَ من أقربائه أو مواطنيهِ، فينضحْ عليهم من مَعينِ بِرِّه، ويخفِّفْ عنهم ألمَ حرمانِهم، ويُشرِكْهم في فرحةِ العيدِ ومناسبتِه السعيدةِ، وبذلك أيضًا يَشعرُ الفقراءُ أنهم من الجماعةِ، لهم عليها أنْ تتذكَّرَهم وترعاهم، فيُجدِّدُ الفقراءُ حبَّهم للأغنياءِ، وثقتَهم بهم، والتفافَهم حولَهم، كما يُجدِّدُ الأغنياءُ وفاءَهم وودادَهم لأحبائهم وأقربائهم المحتاجينَ.

وهذا في الأوضاعِ العاديةِ، فكيف ونحن نعيشُ هذا الحصارَ الظالمَ؟ فالتكافلُ يكونُ أوجبَ وألزمَ، فهذا أمرٌ يفرضُه علينا دينُنا، ثم هذا التكافلُ يُثبِّتُنا على الحقِّ؛ فلا نتنازلُ عن الحقوقِ والثوابتِ، ولقد مدحَ الرسولُ الكريمُ -صلى الله عليه وسلم- الأشعريِّينَ فقال: (إنّ الأشعريِّينَ إذا أرملوا في الغزوِ، أو قلَّ طعامُ عيالِهم بالمدينةِ؛ جمعوا ما كان عندَهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموهُ بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسوِيّةِ، فهُم مني، وأنا منهم)، متفق عليه.

وفرحةُ العيدِ لن تكتملَ إلاّ بالتكافلِ والتكاتفِ والتعاونِ والتواصلِ والظهورِ بالمظهرِ الحسَنِ ونبذِ الفُرقةِ، والتسامحِ والعفوِ وشعورِ جميعِ أفرادِ الأُمةِ بشعورِ بعضِها… وهكذا نفرحُ بالعيدِ، وهكذا يكونُ شُكرُنا للهِ _سبحانه_ على ما جمَعَنا عليه من فريضةِ الصيامِ، ومن فرحةِ العيدِ رغمَ الحصارِ.

نسألُ اللهَ أنْ يفكَّ حصارَنا، وأنْ يُيَسِّرَ أمرَنا، وأنْ ينصُرَنا على أعدائنا، وتتحررَ بلادُنا، وترتفعَ رايةَ الحقِّ عاليةً خفاقةً في كلِّ ربوعِ الأرضِ، وما ذلكَ على اللهِ بعزيزٍ، واللهُ وليُّ التوفيقِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى