في حضرةِ السيدِ الثائر

بقلم الكاتب الأستاذ: محمد شفيق السرحي.
دأَبَتْ المجتمعاتُ القديمةُ والمعاصرةُ , على استحضارِ النماذجِ المشرِقةِ في تاريخِها, والاعتزازِ بقاماتِها التي تقدّمتْ, وحملتْ لواءَها واسمَها؛ ورفعتْهُ عالياً على كافةِ الأصعدةِ, وتوثيقِه لدَيها ضِمنَ ما يسمَّى “بالأدبِ التربوي”, أو “الأدبِ التاريخي” , أو “الأدبِ العلمي”.. وغيرِ ذلك, عبْرَ تراكماتٍ متتابعةٍ, شكّلتْ هويتَها الأدبيةَ والقيميةَ والأخلاقيةَ, حيثُ توظِّفُه في صناعةِ أجيالِها اللاحقة, عبرَ هذه المنظومةِ, وما شكَّله فِكرُ وإنجازُ هؤلاء القادةِ والمفكّرين؛ عبرَ مراحلَ مختلفةٍ في تاريخ هذه المجتمعاتِ , يكونُ الإلهامُ هو رأسُ اهتماماتِها في هذه الصناعةِ, وتشكيلُ الهويةِ القيميةِ والفكريةِ والأدبيةِ, كنماذجَ عمليةٍ قادرةٍ على صناعةِ مفاصلَ تاريخيةٍ, دونَ اللجوءِ إلى النظرياتِ الجوفاءِ, التي لا تصنعُ حضارةً, أو مُنجَزاً تاريخياً يستحقُ التفاخرَ به.
تأمّلتُ كثيراً في صفحاتِ الرثاءِ، والذكرياتِ, والأقلامِ التي كتبتْ , والحقائقِ التي ذُكرتْ , عن فقيدِ الأُمةِ البارِّ , القائدِ الهمامِ , والمهندسِ المقدامِ : م. عماد العلمي ” أبو همام ” , والحقيقةُ أننا _جيلُ الثمانيناتِ _ , لم نكنْ ممّن عاصرَ كثيراً من صفحاتِ نضالِ وجهادِ الرجلِ , وتضحياتِه في العملِ الدعَويّ والحركيّ والتنظيميّ , و قد تعودُ بنا الذاكرةُ , إلى بدايةِ التسعيناتِ ؛ حينما بثَّ تلفازُ العدوِّ الصهيونيّ _ بمُصطلحاته الفَظّة , والعدوانيةِ_ خبرَ إبعادِه _برفقةِ إخوانِه_ إلى لبنانَ , لم تكنْ ردّةُ الفعلِ كبيرةً , ولمّا تتشكّلُ بعدُ القوةُ الإعلاميةُ الفلسطينيةُ ؛ التي تُظهرُ ثوريةَ هؤلاءِ الرجالِ , وعنادَهم في سبيلِ قوةِ حقِّهم الثوريّ , وجهادِهم المباركِ , الذي امتدَّ وتَواصلَ ؛ لنرَى ثماراً يانعةً بعدَ ذلكَ , تُقطفُ من غراسِ أهلِ الإخلاصِ والجهادِ من الرعيلِ الأولِ للدعوةِ المباركةِ في فلسطينَ .
ما يترسّخُ لديكَ من صورةٍ ذهنيةٍ , وأنت الذي لم تعايشُ الرجلَ , ولم تواكبْ تنقُلاتِه , وتضحياتِه وجهادَه , أنه ما كان من تطوّراتٍ متلاحقةٍ , وقوةٍ باهرةٍ أرعبتْ العدوَّ الصهيونيّ , في عديدٍ من المنازلاتِ والصولاتِ والجولاتِ , ومنظومةٍ سياسيةٍ رائدةٍ تتمتعُ بحنكةٍ عاليةٍ , وماكنةٍ إعلاميةٍ متينةٍ، ولاعبٍ أساسٍ في الإقليمِ المحيطِ , وعلى الصعيدِ الدولي , ما كان ليكونَ بعدَ فضلَ اللهِ _تعالى_ إلاّ بغَرسٍ طيبٍ من غارسينَ طيبينَ , امتازوا بميزاتِ ” جيلِ التأسيسِ ” , واتّصَفوا بصفاتِ أهلِ اللهِ ” من المؤمنينَ رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليه فمنهم مَن قضى نَحبَه ومنهم من ينتظرُ وما بدّلوا تبديلا ” , وأنّ ما كشفَه رئيسُ المكتبِ السياسي لحركةِ حماس المجاهدِ إسماعيل هنية ” أبو العبد ” , من أنّ القائدَ “أبا همّام” كان مسؤولاً عن ما يسمّى ب ” القطاع الغربي – غزة ” في العملِ العسكري , وهو الرجلُ الضعيفُ البنيةِ , النحيفُ الهيئة , يذكِّرُك بقولِ الشاعر :
ترى الرجلَ النحيفَ فتَزدَريهِ ••• وفي أثوابِه أسدٌ هصورُ ويُعجبُك الطريرُ إذا تراه ••• فيُخلفُ ظنَّك الرجلُ الطريرُ.
وأنّ الرجلَ الذي عملَ بصمتٍ , وهو يحرّكُ ماكنةَ الإعلامِ الحمساوي , وتحرّكَ بخُطَىً ثابتةٍ مدروسةٍ , ومتوازنةٍ في العملِ الدبلوماسي , ثُم العملِ القيادي في أعلى الهرمِ , ليُخبرَك بحَجمِ قدراتِ وإمكاناتِ الرجلِ المتنوعةِ والمختلفةِ , ليكونَ جامعةً متكاملةَ الأركانِ في العملِ الإسلامي , ونموذجاً يُحتذى , تحتاجُه المنظومةُ العاملةُ اليومَ , سواءً على صعيدِ الأفرادِ , أو القيادةِ , من حيثُ المبادرةِ والتقدمِ , والثباتِ, والسعي للصناعةِ على عينِ اللهِ , وإطلاقِ القيادةِ لقدراتِ أبنائها , وامكاناتِهم , وتمكينِهم للوصولِ بهم إلى الإبداعِ في العطاءِ , والنموذجَ في الأداءِ, وصناعةِ التحولاتِ المفصليةِ , كما القائد الهُمام ” العماد ” , وأنّ الصورةَ النمطيةَ القائمةَ _على اعتبارِ أنّ العملَ السياسيَّ والإعلاميَّ والإداريّ يورِثُ قسوةَ القلبِ , وإماتتَه , ويَحولُ ما بينَ الروحانيةِ والأخلاقيةِ والقيميةِ ؛ وما بينَ استقامةِ النفسِ وطهارتِها _ قد تحطّمتْ , خاصةً في عالمِنا المعاصرِ , ونحن ننظرُ إلى عظمةِ هذا النموذجِ الغائبِ الحاضرِ .
إنّ الناظرَ، في سيرةِ و مسيرةِ الهُمام ” أبي همام ” ؛ ومن سبقَه من القادةِ القامةِ , وصفحاتِ العزِّ التي كتبوها بتضحياتِهم , ولوحاتِ المجدِ التي رسموها بدمائهم , من الأفذاذِ السابقينَ , على صعيدِ منظومةِ العملِ الدعوي والجهادي , على أرضِ فلسطينَ الطيبةِ , في مراحلَ بالغةِ التعقيدِ, وعالمٍ يموجُ بالصراعاتِ ويَميدُ, يشكّلُ أدباً حركياً وتربوياً وتاريخياً, وزاداً فكرياً عملياً , للحركةِ الإسلاميةِ العالميةِ , وأبنائها العاملينَ , يتراكمُ بجانبِ التجاربِ الأخرى , التي تشكّلتْ لدَى مُعتنقي فِكرِها الناصعِ , في بقاعٍ مختلفةٍ من هذا الكونِ , لا بدَّ من توثيقِه , ونشرِه , وتأصيلِه ؛ ليظلَّ مَفخرةً لنا جميعاً , وللأجيالِ المتلاحقةِ التي لم تُعاصرْ ” جيلَ التأسيسِ ” , وهذه الصفحاتُ المُفعَمةُ بالحكمةِ، والشجاعةِ , والرصانةِ, والانطلاقةِ , والحصافةِ , والألمعيةِ الرائعةِ لدَى صُنّاعِها , التي قلّما تَجدُها عندَ أربابِ الفكرِ المادّي , ودُعاةِ الثوريةِ المتعجّلةِ , والفوضويةِ المتعَجرِفةِ .
رَحمِكَ اللهُ يا “أبا همام”، تركتَ خلفَك أبناءً برَرَةً، وأُسوداً مُزمجِرةً، وروَّادَ فكرٍ، وحِكمةً متأصِلةً، ومنهجيةً رصينةً، في منظومةِ العملِ الدعويّ وتفريعاتِه … وكنتَ وما زلتَ فكرةً , والفكرةُ لا تموتُ.
لئنْ ناءتْ بنا الأجسادُ — فالأرواحُ تتَصِلُ.