لن أعيشَ في جلبابِ جدّتي!

بقلم: سميرة نصار
لم تكنْ حياةُ أجدادِنا وسابقينا على هذا الدهرِ أسهلَ من حياتِنا؛ بل هي حياةٌ اتّسمتْ بالتعبِ والشقاءِ؛ لِما فيها من تفاصيلَ يصنعونَها بأيديهِم .
مأكل ٌ ومشرب ٌ وفُرشٌ ونظافةُ بيوتٍ واسعةِ البقعةِ؛ فتجدُ كلَّ بيتٍ يلازِمُه فِناءٌ واسعٍ؛ به الشجَرُ و الزرعُ، وحظيرةٌ تُربّي فيها الأُسرةُ كلَّ ما تحتاجُه من طيورٍ ومواشٍ، وبجانبِها عريشةٌ لدابّةٍ تجُرُّ العربةَ التي تتنقلُ بها الأُسرةُ في مواقعِها , إضافةً إلى جُرنٍ لجَمعِ الحبوبِ المختلفة , ولاسيما مواسمُ التخزينِ التي اعتمدوا فيها على طريقتَي التجفيفِ والتمليحِ .
مشهدٌ طويلٌ، و فصولٌ متتابعةٌ للأسرةِ القديمةِ، بطلتُه الحقيقةُ هي تلك المرأةُ التي تقومُ بكُل التكاليفِ التي أوكلتْها لها العاداتُ والتقاليدُ، وكذلك أعباؤها البيولوجيةُ .
تقومُ بنقشِ تفاصيلِ حياتِها الشاقّةِ الجميلةِ بذاتِها؛ وهي راضيةٌ كلّ الرّضا .
لمَن يشاهدُ هذا المشهدِ من الخارجِ؛ يَجدُ تضاريسَ عالمٍ مُلَبّدٍ بالمتاعبِ والآهاتِ والتنهيداتِ المتصاعدةِ؛ من قلبٍ طرَقَ الحزنُ بابَه مراتٍ ومرات .
ولكنّ الحقيقةَ كانت خلافَ ذلك؛ فالمرأةُ آنَ ذاكَ كانت مُفعَمةً بالسعادةِ والحيويةِ، تَسعدُ بكُلِّ ما حولَها , تشاطرُ الجميعَ بفرحِه وترَحِه ,وتمتّعُ ناظرَيها بشجراتِ دارِها؛ وهي تنمو وتُزهرُ وتطرحُ ثمرِها, تعيشُ سنينَ أطفالِها الأولى سعيدةً بنَسلِها الذي يكبَرُ، تُمسِكُ بأيديهِم لتَدُلَّهم على طريقِ كُتّابِ الحارةِ؛ وتنتظرُ عودتَهم وسطَ النهارِ لتتباهَى أمامَ غيرِها من النسوةِ؛ بأنّ ابنَها أتمَّ حِفظَ جُزءٍ من القرآنِ، أو أتقنَ تعلُّمَ الحروفِ أو الأرقامِ؛ فحينَها تَمدُّ خطواتِها بمزيدٍ من الطاقةِ والإيجابيةِ للاستمرارِ بالحُبِّ, حُبِّ كلِّ شيءٍ , حبِّ هذا المشهدِ الواسعِ بطولِه وعرضِه ، حبِّ الزوجِ والأبناءِ، وحبِّ نسيجِ الأسرةِ الممتدةِ؛ التي أصبحتْ جزءاً من عالَمِها الخاص . وحبِّ هلالِ الشهرِ التي تترقبُه؛ فهو “الروزنامةُ” الخاصةُ بها، والوحيدةُ لتسييرِ مواعيدِها ومسارِ أيامِها .
إلى هنا عزيزي القارئ؛ سأتوقّفُ قليلاً؛ لأُسدِلَ الستارَ على هذا المشهدِ , لأبدأ وإياكَ بمُشاهدةِ مشهدٍ آخَرَ لزمنٍ آخَرَ , مشهدٍ لحياةِ المرأةِ العصريةِ؛ التي لم يَعُدْ لديها البيتُ الواسعُ، ولا الفناءُ، ولا الجُرنُ ، ولا حظيرةُ المواشي، حتى أنها لم تعدْ تطهو الطعامَ في أغلبِ الأحيانِ! , وتنظِّمُ إنجابَ أطفالِها تبعاً لهواها وراحتِها .
تعيشُ الحياةَ المريحةَ بكُل ما أتَتْ به التكنولوجيا العصريةُ من تفاصيلَ , ومع هذا النعيمِ لم نرَ في وجهِ تلكَ المرأةِ ما رأيناهُ في وجهِ جدَّتِها من راحةِ بالٍ، وسعادةِ قلبٍ، وهدوءِ نفسٍ! .
ما تلبثُ أنْ تحيَى بينَ ضغوطاتِ الحياةِ المختلفةِ؛ تصارعُ الأيامَ والأوقاتَ، تتمنّى لو تقفُ عقاربُ الساعةِ؛ ولو للحظاتٍ، تعُدُّ ساعاتِ نومِها على أصابعِ اليدِ الواحدةِ، أثقلتْ على أكتافِها أحمالٌ متعددةٌ؛ لم تَعُدْ حُزمةَ حطبٍ، أو جرّةَ ماءٍ، أو سلّةَ زيتونٍ ، هي أثقلُ من ذلك بكثيرٍ!.
تُحاربُ على أكثرَ من جبهةٍ , فتَجدُها ما بينَ منظومتِها الاجتماعيةِ كزوجةٍ وأُمٍّ، وتكاليفِ عيشِها الاقتصاديةِ التي تزيدُ كلّما زادتْ طقوسُ الحياةِ العصريةِ , وتبِعاتُ مسئولياتِها العلميةِ والعمليةِ، وسُلّمُ اهتماماتِها الطويلُ: في الملبسِ والمأكلِ و الثقافةِ، إضافةً إلى العولمةِ التي غزتْ حركاتِ وسَكناتِ تلكَ العائلةِ و رحلاتِ التسوّقِ الطويلةِ لتقضيَ حاجاتِ أُسرتِها؛ بعدَ أنْ غدَتْ الأسرةُ العصريةُ أسرةً مستهلِكةً، واعترافاً بمُكتسباتِها ما بينَ الخروجِ والإيابِ؛ حصدتْ بعضاً من النجومِ والنياشينِ التي وضعتْها على كتِفِها وأكتافِ أفرادِ أسرتِها .
و لكنها حينما تختلسُ لحظاتِ الراحةِ؛ تنظرُ إلى مِرآتِها؛ ترَى وجهَها الذي شحُبَ رغمَ مساحيقِ التجميلِ التي وضعتْها عليه! , وتتذكرُ يومَ أنْ قلّبتْ دفترَ ذكرياتِ العائلةِ؛ فرأتْ صورة ً لحياةِ جدّتِها فأقسمتْ ” لن أعيشَ في جلبابِ جدّتي “! .
فهَروَلتْ إلى الحياةِ العصريةِ؛ فوجدَتْها حُبلَى بالمتاعبِ؛ ذاتَ لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ غيرَ تلكَ التي استنشقتْها في صورةِ جدَّتِها الباليةِ .