كتاب الثريامدونات الثريا

كان حُصرُماً.. فصار زبيباً

أ‌.محمد شفيق السرحي. كاتب فلسطيني

يقولُ “أبو علي القالي” صاحبُ الأمالي في اللغة: درستُ على شيخٍ لي؛ حتى إذا مضتْ مدّةٌ من الزمنِ؛ ظننتُ بعدَها أني قد ألمَمتُ بأطرافِ العلومِ؛ سوّلتْ لي نفسي باتخاذِ حلقةٍ؛ والانفرادِ بتلاميذٍ؛ فلم استأذنْ شيخي؛ بل لبستُ لباسَ المشيخةِ؛ وجمعتُ حولي في المسجدِ عدداً من الطلبةِ، وأخذتُ أُلقي عليهم درساً؛ بعدَ أنْ نفشتُ ريشي وتمشيختُ عليهم.

ويشاءُ اللهُ أنْ يدخلَ المسجدَ “أستاذي” وأنا في الدرسِ؛ فلمّا رآني أقبلَ نحوي مستغرباً! ووقفَ خلفَ الحلقةِ؛ فاستولتْ عليَّ الدهشةُ! وأخذَ يلقي عليّ بالأسئلةِ المحرجةِ تباعاً؛ حتى أعييتُ وانعقدَ لساني؛ وانكشفَ جهلي؛ وصغرتُ في عيونِ تلاميذي؛ فلمّا كان ذلك قال غاضباً زاجراً: يا هذا.. تزبَّبتَ قبلَ أنْ تَتحَصرمَ.. قُم من هنا يا كيت وكيت، ورماني بنَعلِه! فعَدوتُ هارباً لا ألوي على شيء؛ تُلاحقني ضحكاتُ التلاميذ .

كتبَ كثيرونَ تحتَ هذا العنوانِ، وهذه العبارةِ، بطرُقٍ شتّى مختلفةٍ؛ في أزمنةٍ متعددة؛ ناسبتْ ظروفَ أوطانِهم، وأزمانِهم، ومن يعايشونهم؛ فلمّا كان الأمرُ في زمانِنا؛ وقد وقعَ من بعضِهم في بلادِنا، حيثُ سعيّهم نحوَ الشهاداتِ العلميةِ، والدرجاتِ العليا منها؛ دونَ كَدٍّ وتعبٍ، واجتهادٍ وسهرٍ، في ظِلّ ما يُسمّى ” بتسليعِ التعليمِ “، والتجارةِ عندَ البعضِ به، وتشجيعِهم تحتَ تأثيرِ بريقِ المالِ، وحُبِّ الشهرةِ، ومواقعِ الإعلامِ والتواصلِ الاجتماعي؛ لذا فقد آثرتُ كتابةَ هذه الكلماتِ.

اقتضتْ سُنّة المولى _تبارك وتعالى_ أنْ يجعلَ الدنيا ميداناً للتنافسِ والمُكابدةِ ” لقد خلقْنا الإنسانَ في كَبَد”، ولا يهدأُ بالُ الإنسانِ؛ إلّا بالسعيِّ المتواصلِ نحوَ إشباعِ حاجاتِه، وتحقيقِ ذاتِه , وإثباتِ تميُّزِه على الآخَرين , ومَهما غابتْ هذه الحقيقةُ لسانياً عن حياتِه؛ فهو عملياً _بطريقةٍ أو بأُخرى_ يسعَى إليها حثيثاً , تعدَّدتْ الطرُقُ والهدفُ واحدُ .

والميدانُ العلمي اليومَ، يحتلُّ أولويةً قصوَى لدَى الكثيرِ من الشعوبِ والمجتمعاتِ، كيف لا ؟؟!!! وهو يمثّلُ حاجةً بشريةً، وضرورةً أصيلةً في صميمِ ذاتِ المجتمعاتِ والأفراد؛ لِما يترتبُ عليه من نتائجَ مُبهِرةٍ؛ تَظهرُ على شكلِ مكانةٍ اجتماعيةٍ، وماليةٍ، ونفسيةٍ وذاتيةٍ، وتواصلٍ حضاري، وكينونةٍ قويةٍ، وتميُّزٍ سياديّ على مستوى الدولِ والمجتمعاتِ .

ممّا سبقَ يظهرُ لنا؛ أنّ طرُقَ التحصيلِ العلميّ تتعدّدُ، ومواهبَ الإنسانِ وقدْراتِه تتفاوتُ؛ ولكنّ أصحابَ نظرياتِ التعلّمِ، والتربويينَ كافةً، يُجمِعونَ على ضرورةِ الرسوخِ العلمي؛ وذلكَ من خلالِ مراعاةِ الكفايةِ الزمانيةِ، والعلميةِ، وبلوغِ الكمالِ من خلالِ توافُرِ الأركانِ المُهمةِ في عمليةِ ” التحصيلِ العِلمي ؛ والتي لخَّصها الإمامُ ” الشافعي ” الغزيُّ المَولِدُ والنشأةُ بقولِه:

” أخي لن تنالَ العِلمَ إلا بِسِتّةٍ — سأُنبيكَ عن تفصيلِها ببيانِ.
ذكاءٌ فحِرصٌ فاجتهادٌ، وبِلُغةِ —- وصُحبةِ أستاذٍ وطولِ زمانِ “.

فخصائصُ مرحلةِ الشبابِ، تختلفُ عن الرّشدِ، عن الكهولةِ.. وهكذا. حيثُ أنّ النظرةَ العلميةَ, والتحصيلَ المستمرَّ في مرحلةِ” الحُصرم “؛ تؤثّرُ تأثيراً كبيراً بالِغاً في مرحلةِ” الزبيب”؛ وذلك من حيثُ استواءِ العودِ العلمي , والعقلي , والإدراكي والحِسّي, والكمالِ البَشري, وهذا ما لفتَ انتباهَنا إليه كتابُ اللهِ _عزّ وجلَّ_ في عديدِ الآياتِ بقولِه تعالى : ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ )” الأحقاف/ 15 “, وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)” القصص: 14″ .

وإنك لتتأمّلُ، في مَبعثِ الأنبياءِ، ومبعثِ النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ في سنِّ الأربعينَ، وما حولَها؛ لِتَجِدَ هذا المفهومَ _بشكلٍ أو بآخَرَ_ مُتجسِّداً وحاضراً، يُعينُ ذلك خبَرُ أحمد وغيرِه: (أنزلتْ عليه النبوّة وهو ابنُ أربعينَ سنة)، مَرويّاً عن ابنِ عباس ” رضي الله عنهما “.

ومن المعلومِ لدَى أهلِ العلمِ ؛ أنّ مرحلةَ التحصيلِ ؛ تكونُ في فترةِ الشبابِ وبداياتِه ؛ وبعدَ الأربعينِ , تبدأُ مرحلةُ الحصادِ العلميّ , والتأليفِ , والاجتهادِ في البحثِ العلمي , والنشرِ , وهذا ما تُترجِمُه ” منظومةُ الدرجاتِ العلميةِ (بكالوريوس , ماجستير , دكتوراة ) والتي تقاربُ مدّة( 10 )سنواتٍ , بعدَ مرحلةِ التأسيسِ العلمي) , في زمانِنا المُعاصِرِ ؛ حيثُ تهدفُ في نهايتِها , وعبرَ تَسلسُلٍ زمنيٍّ مدروسٍ أيضاً ؛ إلى تخريجِ باحثينَ , مفكرّينَ , يُثْرونَ الحياةَ العلميةَ , ويعملونَ على تقدّمِ البشريةِ من خلالِ ما حصدوهُ إبّانَ فتراتِ تحصيلِهم العلميّ ؛ على شكلِ أبحاثٍ ودراساتٍ علميةٍ أصيلةٍ , ومشروعاتٍ متكاملةِ الأركانِ , نظرياً كانت أو تجريبيةً.

ما ذُكرَ آنِفاً؛ ليس بالقوالبِ الجامدةِ، فهناكَ إمكاناتٌ وقدراتٌ عندَ بعضِهم؛ قد تجاوزتْ هذه القواعدَ المعلومةَ لدَى كثيرٍ من أهلِ العلمِ، وأهلِ التربيةِ.

وفي كلِّ الأحوالِ، لا بدّ من الموازنةِ والتوازنِ، “فإنّ المُنْبَتَّ لا أرضاً قطعَ، ولا ظهراً أبقَى”، والتأنّي والتُّؤَدَة في النشرِ والتأليفِ، ووضْع المصطلحاتِ والكلماتِ في نصابِها الصحيحِ؛ لأنّ ” صريرَ الأقلامِ أقوى من دَويِّ المَدافعِ ” غالباً، وفي زمانِنا هذا صريرُ الإعلامِ أقوَى من دويّ المَدافعِ ، فقد ينقلبُ تأثيرُه على صاحبِه بطريقةٍ سلبيةٍ، وعواقبَ وخيمةٍ لا يُحمَدُ عُقباها.

قالوا قديماً : ” من استعجلَ الشيءَ قبلَ أوانِه ؛ عوقبَ بِحرمانِه ” , وقالوا : ” تَزبَّبَ قبلَ أنْ يَتحصرمَ ” , فالتعالمُ الصوريّ والظاهريّ , وادّعاءُ الرتبةِ العلميةِ ؛ لأجلِ المباهاةِ , وتحصيلِ الشرفِ , والحصولِ على ” ماركةٍ مسجّلة ” لدَى المجتمعِ تسويقياً؛ سيَصطَدِمُ _لا مَحالةَ_ بنتائجَ عكسيةٍ , تُودي بصاحبِها إلى انتكاسةٍ مَهينةٍ , وتهلُكَةٍ علميةٍ واجتماعيةٍ وخيمةٍ , فضلاً عن مَحْقِ البَركةِ ” برَكة الإخلاصِ في العلمِ ” , واستحقاقِ ” عدمِ الرّضا الربّاني ” , ولا علاجَ لهذه الظاهرةِ ؛ إلّا بالرجوعِ إلى المختصّينَ من أهلِ العلمِ , ومَصادرِ العلمِ الأصيلةِ من المؤسساتِ التعليميةِ، والكتبِ والمَراجعِ العريقةِ ؛ التي تؤدّي بطالبِ العلمِ إلى الجدّيةِ , والمنهجيةِ الرصينةِ في الطلبِ ؛ وصولاً إلى الألقابِ والشهاداتِ , والمراتبِ الحقيقةِ التي تخدمُ الإنسانيةَ , وتقدِّمُ مُنجَزاً حضارياً راقياً , حُقَّ لصاحبِه حينَها , ومن له فَضلُ عليه من مُعلّميهِ ؛ أنْ يباهيَ به العالمَ أجمعَ , فيكونَ حينئذٍ قد ” تزبَّبَ بعدَ أنْ كان حُصرُماً ” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى