مسيرةُ العودةِ رؤيةٌ مقاصدية

بقلم: د. ياسر فوجو أستاذ مساعد بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية
جاءت الشريعةُ الإسلاميةُ مشتملةً على المرونةِ في جوانبِها المتعدّدةِ، وتنوّعتْ بينَ المقاصدِ والوسائلِ؛ فالمَقاصدُ الشرعيةُ ثابتةٌ لا تتغيّرُ؛ وأمّا الوسائلُ فتتغيّرُ بتَغيُّرِ المُعطياتِ الزمانيةِ والمكانيةِ؛ سياسيةً كانت أَم عسكريةً أَم اجتماعيةً؛ لذا فإنّ الشريعةَ تُوائمُ بينَ المقاصدِ والوسائلِ التي تساهمُ في تحقيقِها؛ وعليه فالتنوّعُ في وسائلِ مقاومةِ الاحتلالِ الصهيونيّ؛ الذي اغتصبَ أرضَ فلسطينَ مطلوبٌ بشِدّة؛ وبناءً عليه؛ فقد لجأَ أهلُنا في غزةَ إلى الحراكِ السلميّ المُتمثّلِ في مسيرةِ العودةِ؛ فهي أقوى أثَراً من الطائراتِ والمدافعِ في حالاتٍ مُعيّنةٍ؛ وهذا ما نشاهدُه من خلالِ مُخرَجاتِ المسيرةِ؛ فقد حقّقتْ أهدافاً لا يمكنُ تحقيقُها بالمدافعِ ولا بالصواريخِ؛ ومنها إحراجُ العدوِّ الصهيونيّ، والكشفُ عن وجهِه القبيحِ الذي يتغذَّى على سفْكِ الدماءِ، وسلْبِ الحقوقِ.
فضَربتْ نظريةَ تزيينِ وجهِ الاحتلالِ أمامَ العالمِ بأسرِه، ولَمّا كانت مسيرةُ العودةِ من الوسائلِ المشروعةِ شرعاً، وقانوناً؛ وقد كفِلتْها القوانينُ الوضعيةُ؛ جاز استعمالُها للتأثيرِ على العدوِّ في المجالاتِ المختلفةِ، بل ويجوزُ لشعبِنا مقاومةُ الاحتلالِ بكافةِ الوسائلِ؛ بما في ذلك المقاومةُ المسلحةُ؛ وذلك بسببِ إخراجِنا من أرضِنا وديارِنا، قال تعالى: ﴿..وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا..﴾.
فقد بيّنتْ الآيةُ أنّ غصْبَ الأرضِ، والإخراجَ من الديارِ؛ سببٌ في قتالِ اليهودِ، وهذا كلُّه يحتاجُ إلى مدافعةٍ بينَ الصهاينةِ وأصحابِ الأرضِ الحقيقيينَ، قال تعالى: ﴿.. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ..﴾، فإنّ الواجبَ علينا مُدافعةُ اليهودِ لتخليصِ أرضِنا من أنيابِهم، وتطهيرِ الأرضِ من فسادِهم، ولِيَعلمَ الجميعُ أنّ معركتَنا مع اليهودِ معركةٌ عَقديةٌ؛ لذا جاء في النظمِ الكريمِ قولُه تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.
ولقد راهنَ الاحتلالُ والذين يَدورونَ في فُلكِه على نسيانِ الشعبِ الفلسطينيّ لحقِّه في أرضِه ومقدساتِه؛ الأمرُ الذي جعلَهم يصادرونَ القدسَ لصالحِ الصهاينةِ، ولكنْ جاءت مسيرةُ العودةِ لتُثبتَ عكسَ ذلكَ؛ فقد أظهرتْ وأكّدتْ على توريثِ الحقِّ الفلسطينيّ في كاملِ ترابِ وطنِه إلى الجيلِ الناشئ؛ وضربتْ نظريةَ الصهاينةِ ورِهانَهم على نسيانِ الفلسطينيينَ لحقِّهم، كما وتُعَدُّ مسيرةُ العودةِ مؤشراً على إصرارِ شعبِنا على حقِّ العودةِ، ولن يَمُرَّ إلغاءُ هذا الحقِّ بحالٍ من الأحوالِ.
كما ويُعدُّ من إيجابياتِ مسيرةِ العودةِ؛ أنها أعادتْ الُّلحمةَ، والوحدةَ بينَ أبناءِ الشعبِ الفلسطينيّ على اختلافِ توجُّهاتِهم السياسيةِ؛ الأمرُ الذي رسمَ أجملَ الصوَرِ في الميدانِ؛ تمثّلتْ بالمشاركةِ الفاعلةِ؛ فأصبحْنا نرى الجسدَ الفلسطينيَّ موَحداً؛ إذا اشتكَى منه عضوٌّ تداعَى له سائرُ الأعضاءِ بالسهَرِ والحُمّى، فَهُم يدٌ على مَن سِواهُم؛ لا يضرُّهم مَن خذلَهم؛ ولا مَن تآمرَ عليهم؛ ثابتونَ مدافعونَ عن كرامتِهم وأرضِهم ومعتقداتِهم، متوكّلونَ على اللهِ _تعالى_ ومُقيمو الصلاةِ، وموَحِّدونَ ربَّهم؛ حتى يأذنَ اللهُ تعالى لهم بالنصرِ والتمكينِ بِبَركةِ الدماءِ الزكيّةِ التي تَسيلُ على ترابِ الوطنِ؛ الذي تَعطّرَ بأقدامِ الأنبياءِ على أرضِ البِشاراتِ، وإنّ غداً لِناظرِه لقريبٌ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.