كتاب الثريا

جنّةُ الدنيا أنتِ ” أمي “

بقلم: د. مريم البرش

هالَني مَشهد أُم “عبد العزيز”؛ وهي تَقفُ على مقرُبةٍ مِنّي في مَشهدٍ نفسيٍّ أنا شاهِدةٌ عليه، هي سيدةٌ فقدتْ أصغرَ أبنائها في حادثِ سَيرٍ بشكلٍ مُفجِعٍ وغيرِ متوقَعٍ.

لم تفارِقْ صورتُها مخيّلَتي ؛التي احتفظتْ بكُلِّ مَلامِحِ الألمِ و الحُزنِ على وجهِها؛ حيثُ أكلَ الحزنُ مَعالِمَه، رغمَ أني لم أسمعْ صوتَها!!! لكني شعرتُ أنّ قلبَها يكادُ يتَفطّرُ من فَرْطِ الشوقِ لوَليدِها الصغيرِ، ولسانَها لم يَكُفّ عن الدعاءِ لولدِها بتَمتَماتٍ عزَفَتْها بسيمفونيةٍ لا تَفهمُها للوَهلةِ الأولى؛ لكنها تَصِلُه دونَ اتّصالٍ، تُرسِلُها مُغلّفةً بالشوقِ و الأنينِ لفقدِه.

رُبما لم يكنْ الفقدُ في مُخيّلةِ “أم عبد العزيز” يوماً، ورُبما داهمتْها فاجعةُ الموتِ؛ لكنّ صِدقَ عاطفتِها أوجعني؛ وجعلَ مخيّلَتي تتقلّبُ بينَ آلافِ الصوَرِ للأمهاتِ الثكلَى اللواتي عرفتُهنّ؛ بينَ أمِّ شهيدٍ، وأمِّ مريضٍ، وأمِّ أسيرٍ، أو مُطارَدٍ أو مُبعَدٍ.

بحثتُ عن رابطٍ يجمعُهُنّ، اختلفتْ الأماكنُ، واختلفتْ الأسبابُ، واختلفتْ الأمورُ في كلِّ التفاصيلِ؛ إلّا شيئاً واحداً اتفقتْ جميعُ القصصِ عليه؛ ألا وهو “قلبُ الأمِّ”، تلكَ الرحمةُ العجيبةُ التي لا تفارِقُه، وتلكَ اللهفةُ على وليدِها أكثرَ من نفسِها _بلا مُبالَغةٍ_.
لم أستطِعْ يوماً أنْ أنسى لهفةَ قلبِ أُمي، ودمعةَ عينيها التي تحجّرتْ مكانَها؛ حين كاد أنْ يُصابَ أحدُ إخوتي بمَكروهٍ _لا قدّرَ اللهُ_.

لا أنسَى حديثَ أمِّ شهيدٍ؛ وهي تقولُ لي: “الجميعُ هربَ من المنزلِ لحظةَ القصفِ؛ لكني بقيتُ وحدي مع ولدي الذي استُشهدَ أمامي! ولم أكنْ لأُفارِقَه حتى لو فارقتْ روحي جسدي في تلكَ اللحظةِ”! الجرحُ الذي نزفتْ لأجلِه دموعُ أمِّ الشهيدِ؛ لا يَقِلُّ ألَماً عن الجرحِ الذي نزفتْ لأجلِه دموعُ كلِّ أمٍّ ثَكلَى في أنحاءِ المعمورةِ.

لا أنسَى الإجابةَ الجماعيةَ لعددٍ من الأمهاتِ في إحدى الدوراتِ التدريبيةِ؛ حينَ قالت المدرّبةُ: يجبُ أنْ تُحبِّي نفسَكِ أولاً ثُم الآخَرينَ! جميعُهن أنكرْنَ بشِدّةٍ وقُلنَ: “لا، أولادُنا أولاً ثُم أنفُسُنا”!.

تلكَ الرحمةُ التي ضربْ بها رسولُنا الكريمُ مَثلاً لرحمةِ اللهِ بعِبادِه؛ حينَ رأى امْرَأَةً أضاعتْ طفلَها، وهي تحِنُّ وتبكي على فقدِه، حتى وجدتْهُ، فأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِى النَّارِ” قُالوا: لاَ وَاللَّهِ وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : “لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا”.

ما كتبتْهُ سابقاً لأنعشَ ذاكرتَكم بمواقفَ كثيرةٍ؛ كانت الأمُّ فيها الأولى في عطفِها وحنانِها وصبرِها، فمَن كانت له أمٌّ؛ فلْيَعلَمْ أنّ اللهَ قد فتحَ أبوابَ جنةِ الدنيا في وجهِه بقُربِه منها، ولن يحِرَمه _بإذنِ اللهِ_ من جنةِ الآخِرةِ، وإن كانت قد سبقتْ إلى دارِ الحقِّ فبِرُّوها.. فإنّ بِرَّ ما بَعدَ الموتِ من أفضلِ البِرِّ؛ لأنه خالصٌ لا يَشوبُه شُبهَةُ ثناءٍ أو شُكرٍ أو مصلحةٍ.

لا أريدُ أنْ أكونَ تقليديةً، وأعيدَ الكلامَ حولَ رِضا الأمِّ، والحِرصِ على طاعتِها؛ لأنه يُفترَضُ أنْ يكونَ من المُسلّماتِ، فقطْ لو تَعلموا أنّ الأعمالَ، والأشغالَ، والأيامَ؛ كلَّها تمضي ولا يبقى إلا مشاعرُ جميلةٌ، وعلاقاتٌ وَدودةٌ؛ لولاها لأصبحتْ حياتُنا لا تُطاقُ حقاً.

اقترِبوا أكثرَ من أمهاتِكم، أشبِعوا أنفسَكم من حنانِهِنَّ وعطفِهنَّ عليكم، احْمَدوا اللهَ على نِعمةِ الشخصِ الذي يتمنّى لكم الخيرَ قبلَ نفسِه، احمَدوا اللهَ على شخصٍ يدعو لكم، ويبذلُ لكم دونَ أنْ يَمُنَّ عليكم، احمَدوا اللهَ على وجودِ نِعمةٍ في الدنيا تُسمَّى “الأمُّ”، فالأمُّ جنةُ الدنيا والآخِرةِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى