جريمةٌ عربيةٌ في القدس

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي- بيروت
إنهم كمَن يَزنونَ في باحةِ الحرمِ! أو يَبولونَ في الحِجْرِ وعلى الحَجرِ الأسودِ! ويحتسون الخمرَ في محرابِ الأقصى! فقد ارتكبوا إثماً عظيماً! واقترفوا معصيةً لا تُغتفَرُ! وأتوا عملاً يَبرأُ اللهُ ورسولُه والمؤمنون منه! وجاءوا بعَيبٍ يستحي منه الوطنيونَ! ويخجلُ منه القوميونَ! ويرفضُ أنْ يدافعَ عنهم المخلصونَ، أو يقفَ إلى جانبِهم الصادقونَ؛ إذْ لا تبريرَ لجريمتِهم! ولا تفسيرَ لفَعلتِهم! الَّلهم إلّا الخيانةَ والنكايةَ، والتفريطَ والتنازلَ، والإذعانَ والاستسلامَ، والمَهانةَ والمَذلّةَ، والتبعيةَ والدونيةً، فقد هَرولوا بمَحضِ إرادتِهم إلى سيّدِهم، وركعوا على الأقدامِ بهَوانٍ عندَ قاتلِهم! وخنَعوا بصَغارٍ أمامَ عدوِّهم! ظانِّينَ أنه سيُنقِذُهم، وأنه سيكونُ معهم، وسيقفُ إلى جانبِهم، وسيُخلِّصُهم من خوفِهم، وسيَسكُب الطَّمأنينةَ _على مستقبلِهم_ في قلوبِهم، وأنه سيكونُ حليفَهم الصادقَ، وصديقَهم القادمَ، وأنه سيَنصُرُهم على أعدائهم، وسيحمي مُلكَهم، ويُبقي في الأرضِ على ذِكرِهم.
بوَقاحةٍ وقِلّةِ أدَبٍ! ودونَ خوفٍ أو خجلٍ! وبلا مراعاةٍ للعروبةِ التي إليها ينتسِبونَ! وإلى الإسلام الذي به يَدينونَ؛ أقدمَ رياضيونَ عربٌ _من دولَتي الإماراتِ العربيةِ المتحدةِ، ومملكةِ البحرينِ، في الذكرى السبعينَ لتأسيسِ دولةِ الكيانِ الصهيونيّ على أرضِ فلسطينَ الطاهرةِ_ على المشاركةِ في سباقِ “جيرو دي إيطاليا” للدراجاتِ الهوائيةِ، الذي يُنظَّمُ في مدينةِ القدسِ المحتلةِ، التي يعيثُ فيها الاحتلالُ فساداً، ويسومُ أهلَها فيها سوءَ العذابِ، إلّا أنهم شارَكوا العدوَّ مهرجانَه الرياضي على مَقربةٍ من المسجدِ الأقصى! وفي قلبِ المدينةِ التي يعملُ الإسرائيليونَ على تهويدِها، وشطْبِ معالمِها العربيةِ والإسلاميةِ، وطرْدِ أهلِها وأصحابِها منها، وتسعى الإدارةُ الأمريكيةُ الجديدةُ إلى انتزاعِها من العربِ، وحرمانِ أهلِها الفلسطينيينَ من حقِّهم فيها، بالاعترافِ بها عاصمةً أبَديةً موَحدةً للكيانِ الصهيوني!.
لم يكتفِ الرياضيونَ _المُطبِّعونَ، المجرمونَ المُفرِّطونَ، المُهادنونَ المستسلمونَ_ بالسباقِ الرياضي؛ بل تعمَّدوا أنْ يصافحوا المُصطَفِّينَ على جانبَيِ الطريقِ! وأصرُّوا على تحيةِ الجمهورِ الذي رافقَ السباقَ وتابعَ الدرّاجينَ! وهم يَعلمونَ أنّ مِن بينِهم مَن أطلقَ النارَ على إخوانِهم! ومنهم من انتهكَ حُرمةَ مسجدِهم الأقصى! وغيرَهم ممّن يُعذِّبُ أبناءَهم، ويحقّقُ مع إخوانِهم، ويُضيّقُ الخناقَ على أَسراهُم؛ ورغم ذلك فقد بالَغوا جدّاً بالتعبيرِ عن مشاعرِهم، وبيانِ مواقفِهم، إذْ صرّحوا لوكالاتِ الأنباءِ وعمومِ الصحافةِ الإسرائيليةِ والأجنبية؛ أنهم سُعداءُ بالمشاركةِ! وفخورونَ بما قاموا به!، وأنهم يتطلعونَ إلى غيرِهم ليَحذوا حذوَهم، ويسيروا على طريقِهم! إذْ أنهم وحكوماتِهم لا يَرونَ في الكيانِ الصهيوني عَدوّاً! ولا يشعرونَ أنه يهدّدُ مصالحَهم، أو يتآمرُ على مستقبلهِم!.
قد أساءَ هؤلاءِ إلى حجابِ المرأةِ المسلمةِ، ولطّخوا شَرفَه ودنّسوا طُهرَه! وأساءوا إلى الشعبِ الفلسطينيّ، وطعنوهُ في ظهرِه! بل صفَعوهُ على وجهِه! وارتكبوا في حقِّه جريمةً كبيرةً! فرِحَ بها العدوُّ وسَعِدَ، وابتهجَ وطَرِبَ، وتباهتْ وسائلُه الإعلاميةُ في نقلِ الصورةِ وتعميمِ الخبرِ، وكأنهم يقولونَ للفلسطينيينَ أنه لا أحدَ معكم، ولم يَعُدْ يؤيّدُكم أحدٌ، فهؤلاءِ إخوانُكم معنا! يزورونَنا ويشاركونَنا أفراحَنا ومهرجاناتِنا! ويشتركونَ معنا في أنشطتِنا وفعالياتِنا! فلماذا تُصِرّونَ على مواصلةِ المقاومةِ، وتُعاندونَ في مواقِفِكم، وتتمسّكونَ بخيالاتِكم وأوهامِكم التي ستبقَى أوهاماً وأحلاماً لن يتحقّقَ منها شيءٌ؟!.
تُرى هل يَقبلُ الإماراتيونَ والبحرانيونَ العربُ بما قام به مواطنوهُم! وهل يسكُتونَ عن جريمتِهم! ويبرِّرونَ فَعلتَهم! ويَغضبونَ ممن ينتقِدُهم ويعترضُ عليهم! أَم أنهم سيَؤوبونَ إلى الحقِّ، وسيَصطفّونَ مع أهِله، وسيقفونَ في وجهِ المخطئينَ من مواطني بلادِهم. وسيقولونَ كلمةَ الحقِّ بعالي صوتِهم؛ ولو كانت موجِعةً ومؤلمةً، وتثيرُ غضبَ السلطاتِ، وسخطَ الحكوماتِ، وقد يترتبُ عليها عقوباتٌ، واعتقالاتٌ، وملاحقاتٌ، ومُضايقاتٌ! ولكنهم سيقولونَها بلا خوفٍ ولا تَردُّدٍ؛ لأنّ فلسطينَ عندَهم أكبرُ، والقدسَ أعظمُ، والأقصى أغلَى وأنفَسُ، والكيانَ الصهيونيّ عدوٌ غاصبٌ، ومُحتلٌ قاتلٌ، وخائنٌ غادرٌ.
رغمَ هذا الفعلِ السيء الأليمِ، وهذا السلوكِ المُحزنِ الرخيصِ، وهذه المشاركةِ المُخزيةِ المشينةِ؛ إلّا أننا لن نفقدَ الأملَ يوماً في شعوبِنا العربيةِ والإسلاميةِ، ولن نيأسَ من نُصرتِها وتأييدِها، بل نحن على يقينٍ تامٍّ أنها صادقةٌ ومخلصةٌ، وأنها ثابتةٌ وأمينةٌ، وأنها لا تفرّطُ ولا تخونُ، ولا تَخنعُ ولا تخضعُ، وأنها أبداً لن تَقبلَ بفعلِ حكوماتِها، ولن ترضَى عن سلوكِ بعضِ أبنائها؛ فهذه الشعوبُ حُرّةٌ؛ وقد عوّدَتْنا على الثورةِ والنصرةِ، وسبَقتْنا بالعَونِ والنصرةِ، فلن تَسوخَ أقدامُها، ولن يغيبَ صوتُها، ولن تَهِنَ قواها؛ بل ستنهضَ وستغضبَ، وستقولَ كلمتَها الحرّةَ الأصيلةَ، الصادقةَ القديمةَ: “أنها معَ فلسطين وشعبِها، ومع القدسِ وأهلِها”.