الدين والحياة

فِقهُ الأولياتِ وأثرُه على مستقبلِ الأُمة

إعداد: محمد قاعود

إنّ الإسلام جاء منظِّمًا لحياة البشر, مؤكِّداً على ضرورة الترتيبِ بين الأشياء بحسَبِ أولويتِها وأهميتها بالنسبةِ للفرد وللأُمة المسلمة؛ كي نعيشَ في مجتمع متطورٍ، يُقدم الأَولى فالأَولى ليزدَهِرَ ويرتقيَ بأخلاق أفراده، ويواكبَ التطورات ويعودَ إلى مساره الصحيحِ، في حين تتزايدُ حاجتنا إلى فِقهِ الأولوياتِ في ظِل كثرةِ المفارقات والشبهاتِ التي تُحلِّقُ في آفاقِ أمتِنا الإسلامية، “الثريا “ تلتقي” أ. وجدي أبو سلامة” للحديثِ عن فقهِ الأولويات وأثرِه على مستقبلِ الأمة.
يعرِّف الشيخ “وجدي أبو سلامة” فقهَ الأولويات بأنه “مركَّبٌ إضافي من كلمتين: أمّا الفقهُ فهو الفهمُ مُطلقاً. ولا يُقصد بكلمة الفقهِ هنا المعنى الاصطلاحي الذي هو “العِلم بالأحكامِ الشرعية العمليةِ المُكتسَب من أدلَّتِها التفصيلية”، وإنما مقصودٌ به مُطلَقُ الفهمِ الذي جعله الله شرطَ بلوغِ الخير وتحقُّق الهدي: “من يُردِ اللهُ به خيراً يفقِّهُ في الدين”.

وأمّا الأولويات، فهي جمعُ أَولَى، وأَولَى في اللغة، أحرَى وأجدرُ كما جاء في القاموسِ ومختار الصحاح.. فيتحصل عندنا أنّ هذا المركّب الإضافي (فقهُ الأولويات) يعني: “معرفةُ ما هو أجدرُ من غيرِه في التطبيق”، بمعنى أنْ يقدَّمَ على غيرِه، وهذا أيضاً تابعٌ لمعرفة طبيعةِ الوقت الذي يطبَّق فيه الأمر.

ويضيف أ. وجدي أبو سلامة :”أساسُ هذا الفقه أنّ القيمَ والأحكام والأعمالَ والتكاليف متفاوتةٌ في نظرِ الشرع تفاوتاً بليغا، وليست كلُّها في مرتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، وحاجتنا إلى فقه الأولويات؛ باتت ضرورةً من كثرة المفارقات في أقطار أمتنا، فتجد أنّ الفن والترفيه مُقدمٌ أبداً على ما يتعلق بالعلم والتعليم، وأنّ الحاجة تزدادُ عندما نعلمُ أنّ الإخلالَ بالأولوياتِ اليومَ ليس عند جماهيرِ المسلمين فقط؛ وإنما أيضاً عند المنتسبين إلى التديُن ذاتِه، لفقدانِ الفقهِ الرشيد والعلمِ الصحيح”.

ويستدرك أ. أبو سلامة :”في زمن يتكالبُ فيه العالَمُ على قتال المسلمين، الأَولى بهم أنْ يقدِّموا وَحدةَ المواجهةِ على الردودِ الاجتهادية في المسائل الظنية، وأنْ يقدموا الحرصَ على ظهور الإسلامِ، على الحرص على ظهورِ التنظيم, فالوقتُ ليس وقتَ إظهارِ أيِّ رأيٍّ أفضلُ، وأيِّ اجتهاد أصوَبُ، بل الوقتُ وقتُ رصٍّ للصفوفِ، وجمعٍ للكلمة في مواجهةِ هجمةٍ عاتية تستهدفُ كلَّ من يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. وإليه يشير قوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) (التوبة).

ويقول أ. أبو سلامة من الواجب أنْ (تُقدَّمَ المصلحةُ الدائمة على المصلحة العارضةِ أو المتقطعة ) و( تُقدّم المصلحةُ المستقبليةُ القوية على المصلحةِ الآنيةِ الضعيفة ) ومن القواعدِ المُهمة (أنّ دَرءَ المفسدةِ مُقدَّمٌ على جلبِ المصلحة ) وتكملُها قاعدةٌ مهمة وهي أنّ ( المفسدة الصغيرة تُغتفرُ من أجل المصلحةِ الكبيرة )و ( تغتفرُ المفسدةُ العارضة من أجل المصلحةِ الدائمة ) ( ولا تُتركُ مصلحةٌ محقَّقة من أجل مفسدةٍ متوَهِمة ).

الجوانب التي تغطيها الأولوياتُ كما صنّفها الشيخ “أبو سلامة” في نقاط :

  1. أولوية الكيفِ عن الكَم:
    فليس المهم أنْ يكثرَ عددُ الناس، ولكنّ المُهم أنْ يكثرَ عددُ المؤمنين الصالحين منهم، وأنّ البعض يحتجُّ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تناسلوا تكاثروا .. فإني مكاثرٌ بكم الأمم) ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يباهي الأممَ بالجهلة ولا بالفسقةِ ولا بالظالمين، وإنما يباهي بالطيبين العاملين النافعين , فالرجال تُقاسُ بما في رؤوسِهم من علمٍ، وما في قلوبهم من إيمان، وما يثمِرُه هذا الإيمانُ من عمل، على أنّ العملَ في نظر الإسلامِ لا يقاسُ بحجمهِ، ولا بعدَدِه،وإنما بحَسنِه.
  2. أولويةُ العلمِ على العمل:
    مما يستأنسُ به لتقديم العلمِ على العمل : أنّ أول ما نزل من القرآن : (اقرأ)، والقراءةُ مفتاح العلم، ثم نزل العملُ في مثل: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبّر، وثيابك فطهر). وفقهُ الأولويات الذي نتحدث عنه مبناهُ ومداره على العلم، فبه نعرفُ ما حقُّه أنْ يقدَّم، وما شأنه أنْ يؤخَّر، وبدون هذا العلمِ نخبطُ خبطَ عشواء، ومن هنا كان العلمُ شرطاً في كل عملٍ قيادي (سياسي أو عسكري أو قضائي)، يوسف عليه السلام الذي قال له ملك مصر : (إنك اليومَ لدينا مكينٌ، قال اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ ٌعليم )، فأشار إلى مؤهِلاته الخاصة التي ترشِّحُه لهذا العمل الكبير؛ الذي كان يشملُ الماليةَ والاقتصاد والتخطيطَ والزراعة والتموينَ في ذلك الحين، أم كان العمل عسكرياً : كما قال تعالى في تعليل اختيار طالوت ملكاً على أولئك الملأ من بني إسرائيل: (قال إنّ الله اصطفاهُ عليكم وزاده بسطةً في العلمِ والجسم)
  3. أولوية الفهمِ على مجردِ الحفظ:
    وفي حديث أبى موسى في الصحيحين : “مِثلُ ما بعثني الله به من الهُدى والعلم، كمثلِ الغيثِ الكثير، أصاب أرضاً، فكان منها نقيةٌ قبلت الماء، فأنبتتْ الكلأ والعشبَ الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منهم طائفة أخرى، إنما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماء، ولا تنبتُ كلأ، فذلك مثلُ مَن فقِهِ في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به، فعلِمَ وعلَّمَ، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبلْ هُدى الله الذي أرسِلتُ به” لذلك الحفظُ ليس له أيُّ قيمةٍ مطلقاً، وإنّ الذاكرة في الإنسان لا جدوى لها، فهذا غير صحيح.
  4. أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا:
    وأَولى الناس بالتخطيط لغدِهم : رجالُ العالم الإسلامي ، فلا يدَعون الأمور تجري في أعنَّتِها، من غير انتفاعٍ بتجاربِ الأمس، ولا رصدٍ لوقائعٍ اليوم، ولا تقويمٍ للصوابِ والخطأ في الاجتهادات، ولا مقدارِ المكاسبِ والخسائرِ في المسيرة بين الأمسِ واليوم.
  5. الأولويات في الآراء الفقهية:
    الآراء الفقهية إذا اختلفتْ وتباينت، فكيف نرجِّحُ بينها، ونقدِّمُ بعضها على بعض؟
    إنّ المعركةَ الكبرى للدعاة هي مع العَلمانيين الذين يخرجون عن القطعيات، وأنّ النقاشات الساخنة في الظنيات أمرٌ مذموم إذا أصبح شغلُنا الشاغلِ، ومن الخطر أنْ نعرضَ القضايا المختلَفَ عليها على أنها قضايا مسلّمةٌ لا نزاعَ فيها أمام الناس
  6. الأولويات في العلوم: (طلبُ أنواع العلوم فرضٌ على الكفاية).
    معرفة احتياجات الأُمة في كل عصر، ثم توزيعُ الخبرات على الاختصاصات المطلوبة؛ لتتكاملَ فيما بينها , ففي هذا العصر مثلاً، مطلوبٌ معرفةُ احتياجات الأمة، فنحن نحتاج إلى أخصائيين في الاقتصاد، وإلى أخصائيين في مجالات معيّنة من الطب، كالطبِّ النسائي، مطلوب أخصائيون في التكنولوجيا الحديثة، وما يتفرّع عنها من الصناعات الثقيلة، مدينةٍ وعسكرية، إضافةً إلى بقية العلوم الأخرى، ولكنْ كلَّ عصر قد يحتاجُ إلى نوعٍ من العلوم أكثرَ منه في عصرٍ آخَر , فمثلاً في فترة من الفترات؛ كانت حاجةُ الأمة إلى علمِ الفلسفة والمنطق، للردِّ على الفلاسفة وأربابِ المنطقِ اليوناني..
  7. الأولويات (في الحسبة):ما ذكرَ أنّ شيخ الإسلام “ابن تيمية” مرَّ يوماً مع بعض تلاميذهِ على قوم من التتارِ؛ أطفأت الخمرةُ عقولهم، مع ادِّعائهم انتحالَ الإسلام، فأراد مرافقوه أنْ ينكروا عليهم عملاً بنظامِ الحسبة، فقال لهم دعوهم.. الله تعالـى يقـــول: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) (91- المائدة)، وهؤلاء يصدُّهم الخمرُ عن قتلِ المسلمين، فدعوهم في سُكرهم.. ومن قواعدِ الحسبة “ينكَرُ المتفَقُ عليه، ولا يُنكرُ المختلفُ فيه”. كما لا يُنكرُ إذا أدّى إلى ضررٍ أكبرَ.
  8. أولويات الأدبيات الشرعية على الأدبيات التنظيمية:ومما يجدرُ الوقوف عنده، وإعادةُ النظر فيه، أنّ (الأدبيات الشرعية) يجبُ أنْ تتقدمَ على (الأدبيات التنظيمية). وهذه المعادلة إنْ اهتزت اهتزَّ كلُّ شيء، وأصبح الولاءُ للأشخاص لا الله، والأولوية للتنظيم لا للشرع، وهي ظاهرة خطيرةٌ أخذتْ تتفاقمُ كثيراً في إطار العملِ الإسلامي. فمِن الأمثلة أنّ (التنظيم) قد يتهاونُ مع أفرادِه في مخالفاتٍ شرعية (كالغيبة والنميمة والكذب.. والإثراءِ غير المشروعِ والرياء والمداهنة!!)، في حين لا يتهاونُ في أمرٍ تنظيمي قد يكونُ مخالفاً لحُكمٍ شرعي، وإنّ الأدبياتِ التنظيميةَ يجبُ أنْ تكونَ في خدمةِ الأدبياتِ الشرعيةِ وليس العكس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى