كتاب الثريامدونات الثريا

هاتكو الأستار

أ‌. محمد شفيق السرحي

يأتينا فصلُ الصيفِ هذا العامَ؛ لِيَنكأَ جرحاً دامياً؛ لا يزالُ ينزفُ ألَماً وحسرةً على من خاضَ فيه، وعانَى منه؛ خاصةً في أزِقّتِنا وشوارعِنا الغزية، ومخيماتِنا الصامدةِ، حيثُ التلاصقُ الكبيرُ ما بينَ الجدرانِ، وضيقُ البيوتِ، وعدمُ اكتمالِ بعضِها، وأزمةُ الكهرباءِ المستعصيةِ؛ التي لا تزالُ تراوحُ مكانَها بفعلِ الحصارِ المُطبِقِ على غزّتِنا الأبيّةِ الشامخةِ؛ بالتزامنِ مع ارتفاعٍ متصاعدٍ في درجاتِ الحرارةِ خلالَ هذا الصيفِ.

كنتُ على وشكِ الصعودِ للخطابةِ على منبرِ رسولِ اللهِ في يومِ جمعةٍ؛ فإذا بأحدِهم يأتيني فيقولُ لي: أرسَلَني إليكَ أحدُهم؛ وهو في قِمّةِ القهرِ؛ ممّا حصلَ معه، فهل بالإمكانِ أنْ تتحدثَ عن أولئكَ الذين يتلَصَّصونَ على بيوتِ الناسِ في الليالي المظلمةِ بطبيعتِها، وبفعلِ أزمةِ الكهرباءِ، حيثُ يبحثُ الناسُ عن نسمةِ هواءٍ في ظِلِّ حَرِّ الصيفِ؛ فيَرخونَ أستارَهم ليلاً، ويطمَئِنوا لهَجعةِ الليلِ، ونومِ العبادِ طلباً للراحةِ؛ فيستيقظُ مفزوعاً من أحدِهم في وجهِه؛ يَسترِقُ النظرَ لغرفةِ نومِه، ويطالعُ خصوصياتِ بيتِه، وغُرفَ نومِ مَن فيه!!!!!!

ما سبقَ أُنموذجٌ مُبسّطٌ لفئةٍ فاقتْ شيطانَها في هتكِ الأستارِ للعبادِ، إضافةً إلى هاتكي الأستارِ عبرَ الجوالاتِ، وأدواتِ التصويرِ في الأفراحِ وغيرِها…، وعبرَ الفضاءِ المفتوحِ في عالمِ الإنترنت، ومواقعِ التواصلِ الاجتماعي، الذي يُعَدُّ سلاحاً ذي حدَّينِ، وغيرِها من وسائلِ التقنيةِ الأخَّاذةِ المُبهِرةِ، فاقتضى التحذيرُ، ووجبَ التنبُّهُ، وأخذُ الإجراءاتِ الوقائيةِ اللازمةِ؛ لعلاجِ العديدِ من الأزماتِ والمصائبِ التي تترتبُ على ذميمةِ ” هتك الأستار “، وفضحِ أسرارِ البيوتِ والناسِ.

لقد وضعَ لنا كتابُ ربِّنا _تباركَ وتعالى_ منهاجاً قويماً , عظيماً حكيماً , في التعاملِ مع هاتكي الأستارِ , في جميعِ أحوالِ خطِّ سيرِهم من قبلُ ومن بَعدُ؛ ينطلقُ في ذلكَ من الرقابةِ الذاتيةِ للهِ _تبارك وتعالى_ إلى آدابِ الاستئذانِ، وغضِّ البصرِ, والتحذيرِ من خطورةِ هذا الأمرِ على الفردِ والمجتمعِ؛ إلى العقوبةِ الزاجرةِ لهذا السلوكِ القبيحِ المذمومِ؛ خاصةً في سورةِ “النور” التي قال في حقِّها أميرُ المؤمنينَ “عُمر” رضيَ اللهُ عنه:” علّموا نساءَكم سورةَ النورِ”؛ منها قولُ المولَى جلَّ وعَلا :” قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ” (30)”النور” .

وقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كذلك يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)” النور” .

وعَن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ رجُلَين سألاهُ عَن الاستئذانِ في الثَّلاثِ عوراتِ الَّتي أمرَ اللهُ بها في القُرآنِ فقالَ ابنُ عبَّاسٍ : ” إنَّ اللهَ سِتِّيرٌ يُحبُّ السِّترَ ، كانَ النَّاسُ ليسَ لهم سُتورٌ على أبوابِهم ولا حِجالٌ في بُيوتِهم ، فربَّما فاجأَ الرَّجلُ خادمَه أو ولدَه أو يتيمَه في حِجرِه وهوَ علَى أهلِه ، فأمرَهم اللهُ أنْ يستأذِنوا في تلك العَوراتِ الَّتي سمَّى اللهُ ، ثمَّ جاء اللهُ بعد بالسُّتورِ فبَسَط عليهِم الرِّزقَ فاتخَذوا السُّتورَ واتَّخذوا الحِجالَ ، فرأى النَّاسُ أنَّ ذلكَ قد كَفاهم مِن الاستئذانِ الَّذي أُمروا بهِ “..
ومَن نظرَ من ثقبِ بابِ غيرِه، ثُم فقأتَ عينَه؛ فلا قصاصَ ولا دِيةَ له، كما استنبطَ فقهاءُ الأُمة من حديثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ” اطَّلَع رجلٌ من جُحرٍ في حُجَرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِدرًى يَحُكُّ به رأسَه، فقال: (لو أعلَمُ أنك تنظُرُ، لطَعَنتُ به في عينِكَ، إنما جُعِل الاستئذانُ من أجلِ البصر). وقوله صلى الله عليه وسلم: “الاستئذانُ ثَلاثٌ ، فإن أذنَ لَكَ وإلَّا فارجِعْ “.

وإنّ من أقبحِ سلوكياتِ هتكِ الأستارِ؛ إلصاقُ التُّهَمِ الباطلةِ بأهلِ العِفّةِ والطهارةِ , وإثارةُ الشائعاتِ بحقِّ المُحصَناتِ الغافلاتِ, ونشرُ دعاوَى الفضائحِ للمستورينَ والمستوراتِ من عبيدِ اللهِ المتعفِّفينَ والعفيفاتِ , أو أولئكَ الذين زلّتْ أقدامُهم , وخدعتْهم شياطينُ الإنسِ والجِنِّ , وسوّلت لهم أمراً أنفُسُهم ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24″النور” , والملاحَظُ هنا في الآيةِ الكريمةِ , إلحاقُ وصفِ ” الغافلاتِ ” أي اللاتي ” لا يَخطُرُ ببالِهنَّ مجردُ الفاحشةِ , أو مقدّماتُها ” , وقد خصَّ ” المحصَناتِ ” , وابتدأَ بهنَّ في الذِّكرِ أولَ الآيةِ ؛ لزيادةِ التأكيدِ , وضعفِ جانبِهنَّ في هذا البابِ ( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)” الزخرف ” , كما ذكرَ أهلُ التفسيرِ.

ولمقاومةِ “هتكِ الأستارِ” عبرَ الشائعاتِ , والتشويهِ للأشخاصِ , والقدْحِ في سمعةِ وسيرةِ الآخَرينَ ؛ بنَى لنا كتابُ ربنا , حِصناً حصيناً , بقوله تعالى : “إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12), مِن خلالِ نبذِ الأفّاكينَ , ونُصحِهم ثُم الأخذِ على أيدي المُسيءِ منهم بقوةِ السلطانِ , وحُسنِ الظنِّ بالمؤمنينَ , والإجهازِ على منظومةِ الكذبِ والكذابينَ في جحورِهم وأدواتِهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ الحجرات): 6 , وإحاطةِ المؤمنينَ بالوعظِ البليغِ , والفِقهِ الحصيفِ , والمحيطِ النظيفِ , ومُجانبةِ الشُّبهاتِ , والورَعِ للمُشتَبِهاتِ , و “من سَترَ مسلماً سترَهُ اللهُ يومَ القيامةِ “ .

يا هاتكاً حُرمَ الرجالِ وقاطعاً …… سُبُلَ المَودَّةِ عشتَ غيرَ مُكَــــرمٍ              لو كنتَ حُرّاً من سلالةِ ماجدٍ …… ما كنتَ هتّاكاً لحُرمةِ مُســـــــلمِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى