الدين والحياةكتاب الثريامدونات الثريا

العباداتُ في ميزانِ الشرعِ

بقلم:د. ياسر فوجو استاذ مساعد بكلية الشريعة والقانون الجامعة الإسلامية غزة

خلقَ اللهُ _تعالى_ الإنسانَ لمَقصدٍ عظيمٍ؛ وهو عمارةُ الأرضِ؛ دلَّ على ذلكَ قولُه تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وعمارةُ الأرضِ تَعودُ بالنفعِ على جميعِ المخلوقاتِ بما في ذلكَ الإنسانُ، ولا تكونُ عمارةُ الأرضِ إلّا بنظامٍ يعالِجُ جميعَ جوانبِها؛ ولا يتأتَّى ذلكَ إلّا بالعباداتِ الخالصةِ للهِ _تعالى_ دلَّ عليه قولُه تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.

ولكنّ السؤالَ الذي يَطرحُ نفسَه؛ هل ينتفعُ المَولَى _عزَّ وجلَّ_ من عباداتِ المكلَّفينَ، وطاعاتِهم؟ يقيناً لا ينتفعُ… وإنما شرَعَ _سبحانَه وتعالى_ العباداتِ لتحقيقِ مصالحِ المكلَّفينَ في الدارَينِ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾، ولو كان المكلَّفونَ على أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ؛ ما زادَ ذلكَ في مُلكِ اللهِ شيئاً، ولو كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ؛ ما نقصَ من مُلكِ اللهِ تعالى شيئاً؛ وعليهِ فإنّ تشريعَ العباداتِ يستهدفُ بالدرجةِ الأولَى تحقيقَ النفعِ للإنسانِ، ولكنْ لابدّ للإنسانِ أنْ يؤدّيَ العباداتِ بالشكلِ الصحيحِ؛ لكي ينتفعَ بها في الدنيا، والآخِرةِ.

والعباداتُ قِسمان: العباداتُ الشعائريةُ، والعباداتُ التعامليةُ:
أولاً: العباداتُ الشعائريةُ: وهي العباداتُ التي تنظِّمُ علاقةَ الإنسانِ مع خالقِه، ومن أمثلتِها الصلاةُ والصومُ والزكاةُ والحجُّ.. وغيرُها.
ثانياً: العباداتُ التعاملية: وهي التي تنظّمُ العلاقةَ بينَ الإنسانِ وبني جِنسِه؛ ومن أمثلتِها الصدقُ، والأمانةُ، والوفاءُ بالعهدِ، واكتسابُ المالِ من طرُقِ الحلالِ، وإنفاقُه فيها أيضاً.. وغيرُها.

لذا يُمكِنُ القولُ بأنّ العباداتِ التعامليةِ أخطرُ من العباداتِ الشعائرية؛ لأنّ النفعَ في التعامليةِ يعودُ على جميعِ البشريةِ؛ بينما نفعُ العباداتِ الشعائريةِ يعودُ على المكلَّفِ نفسِه هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ الإخلالَ بالعباداتِ التعامليةِ يعودُ بالإخلالِ على العباداتِ الشعائريةِ، وبالمِثالِ يتّضحُ المَقالُ: فلو فرضْنا أنّ المكلَّفَ قد أدّى صلاتَه على الوجهِ الصحيحِ منذُ تكليفِه بها إلى وفاتِه؛ ولكنه أخلَّ بالعباداتِ التعامليةِ؛ فلا ينتفعُ من عباداتِه الشعائريةِ مُطلقاً؛ دلَّ على ذلكَ قولُه عليه الصلاةُ والسلام:” أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ”.

فقد أظهرَ النصُّ النبويُّ الكريمُ أسبابَ الإفلاسِ؛ وهي جميعاً من العباداتِ التعامليةِ؛ والإخلالُ فيها يعودُ بإبطالِ ثوابِ العباداتِ الشعائريةِ كالصلاةِ والصيامِ والحجِّ، وفي شأنِ الصيامِ يقولُ عليه الصلاةُ والسلام:” مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ”، وقولُ الزورِ والعملُ به من العباداتِ التعامليةِ، ويقالُ لمَن كانت نفقتُه في الحجِ من حرامٍ؛ لا لبَّيكَ ولا سَعدَيكَ حجُّكَ مردودٌ وسعيُّكَ مرفوضٌ؛ لأنّ نفقتَه من حرامٍ، واكتسابُ المالِ من العباداتِ التعامليةِ، وأمّا الزكاةُ فلو أخرجَها على أكملِ وجهٍ، وكان من الفاسقينَ؛ فلن تُقبَلَ منه، قال تعالى:﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ ، من خلالِ ما سبقَ تظهرُ خطورةُ العباداتِ التعامليةِ؛ وكيف كانت سبَباً في إبطالِ العباداتِ الشعائريةِ.

وقد تَحقّقَ هذا الفهمُ في رجلٍ يعملُ في الرعيِ_ وهي مهنةٌ متواضعةٌ_ لكنْ عندما عَرضَ عليه ابنُ عُمر – رضي الله تعالى عنهما – أنْ يتنازلَ عن العبادةِ التعامليةِ_ اختباراً_ فبماذا أجابَ؟ وإليكَ نَصُّ الأثَرِ:” خَرَجَ ابْنُ عُمَرَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَصْحَابٌ لَهُ، وَوَضَعُوا سَفْرَةً لَهُ، فَمَرَّ بِهِمْ رَاعِي غَنَمٍ، قَالَ: فَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ” هَلُمَّ يَا رَاعِي، هَلُمَّ “، فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ” أَتَصُومُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الْحَارِّ شَدِيدٍ سُمُومُهُ وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الْجِبَالِ تَرْعَى هَذَا الْغَنَمَ؟ ” فَقَالَ لَهُ: أَيْ وَاللهِ أُبَادِرُ أَيَّامِي الْخَالِيَةَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ يُرِيدُ يَخْتَبِرُ وَرَعَهُ: ” فَهَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ هَذِهِ فَنُعْطِيكَ ثَمَنَهَا وَنُعْطِيكَ مِنْ لَحْمِهَا فَتُفْطِرَ عَلَيْهِ؟ “

فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي بِغَنَمٍ، إِنَّهَا غَنَمُ سَيِّدِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: ” فَمَا عَسَى سَيِّدُكَ فَاعِلًا إِذَا فَقْدَهَا، فَقُلْتَ: أَكْلَهَا الذِّئْبُ ” فَوَلَّى الرَّاعِي عَنْهُ وَهُوَ رَافِعٌ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَيْنَ اللهُ، قَالَ: فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يُرَدِّدُ قَوْلَ الرَّاعِي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ الرَّاعِي: فَأَيْنَ اللهُ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى مَوْلَاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ الْغَنَمَ وَالرَّاعِي فَأَعْتَقَ الرَّاعِيَ، وَوَهَبَ لَهُ الْغَنَمَ”.

وقد رَوى “ابنُ عبّاس” رضيَ اللهُ تعالى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله:” واللهِ لأنْ أمشيَ لأخٍ في حاجةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ واعتكافِه في مسجدي هذا”، ومساعدةُ الناسِ في حاجاتِهم من قَبيلِ العباداتِ التعامليةِ، ولها من الأفضليةِ ما يفوقُ كثيراً من العباداتِ الشعائريةِ، وقد جاءت نصوصٌ كثيرةٌ تُوجِبُ على المكلَّفِ العباداتِ التعامليةَ، ومنها قولُه عليه الصلاةُ والسلام:” لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ بِاللَّهِ حَتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه “، وهناك نَصٌّ غاية في الخطورةِ؛ وهو قولُه صلّى اللهُ عليه وسلم:” وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ ” قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” الْجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُه بَوَائِقَهُ “، قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: ” شَرُّهُ “، وما أكثرَ الإخلالَ في حقوقِ الجارِ في هذا الزمانِ!.

ولابدَّ من بيانِ العبادةِ الأَولى في حقِّ المكلَّفِ، وهي تدورُ بدَورانِ تخصُّصِه فإنْ كان عالماً؛ فإنّ العبادةَ الأَولى في حقِّه هي تعليمُ الناسِ الشرعَ، وإنْ كان طبيباً فالعبادةُ الأَولَى في حقِّه هي رعايةُ المريضِ وعلاجُه مُخلِصاً في ذلك وإنْ كان مزارعاً فالعبادةُ الأَولى في حقِّه هي أنْ يُنتجَ الخضرواتِ بدونِ مبيداتٍ سامّةٍ، وإنْ كان رجلَ إصلاحٍ فعبادتُه الأَولى الإصلاحُ بينَ الناسِ؛ وعلى هذا الأساسِ يجري القياسُ في كلِّ المِهنِ التي يَمتهِنُ بها الناسُ.

ومن المعلومِ أنّ العباداتِ تكليفٌ؛ والتكليفُ سُمّيَ تكليفاً لِما في من الكُلفةِ والمشقّةِ؛ وعليه فكُلُّ عبادةٍ تشتملُ على مشقةٍ مُحتمَلةٍ للمكلَّفينَ؛ ولكنْ يتفاوتُ الناسُ في الصبرِ على مشقةِ التكليفِ، وينقسمونَ في ذلك إلى أقسامٍ أربعةٍ:

القِسمُ الأول: يصبرُ على مشقةِ أداءِ العباداتِ بقِسمَيها؛ ولا يصبرُ على البُعدِ عن المُنهياتِ؛ بمَعنى تَجِدُه يُصلّي، ويصومُ، ويؤدي الطاعاتِ؛ ولكنْ ليس له صبرٌ على البُعدِ عن المحرّماتِ؛ فإذا رأى امرأةً من غيرِ المحارمِ نظرَ إليها، وإذا سنحتْ له الفرصةُ لاكتسابِ المالِ من طرائقَ مُحرّمةٍ فعلَ، وغيرُ ذلكَ من الأمورِ المَنهي عنها شرعاً.

القِسمُ الثاني: وهو عكسُ القِسمِ الأولِ؛ بمَعنى أنَّ له صبراً على البُعدِ عن المحرماتِ؛ ولكنْ ليس له صبرٌ على القيامِ بالطاعاتِ.

القِسمُ الثالث: وهو أشَرُّ قِسمٍ وهم الذين ليس لهم صبرٌ على الطاعاتِ، وليس لهم صبرٌ على البُعدِ عن المحرماتِ، أعاذنا اللهُ تعالى وإياكم من أنْ نكونَ من هذا القسمِ.

القِسمُ الرابع: وهم الذين يصبرونَ على الطاعاتِ، ويصبرونَ على البعدِ عن المحرّماتِ أيضاً؛ وهم قلّةٌ نسألُ اللهَ تعالى أنْ نكونَ منهم.

وبناءً على ما سبقَ التأصيلُ له؛ يَتبيّنُ أنّ العباداتِ الشعائريةَ، والتعامليةَ مِثلُ قُطبينِ في سكّةِ قطارِ التشريعِ؛ فلا يمكنُ أنْ يسيرَ قطارُ التشريعِ على قُطبٍ واحدٍ أبداً؛ لذا لابدَّ من القيامِ بالعباداتِ بقِسمَيها؛ حتى يصلَ قطارُنا إلى بَرِّ الأمانِ، وجنّة الرحمانِ؛ وندخلَها بسلامٍ وجميعَ الذين يَدينونَ بدِينِ الإسلامِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى