كتاب الثريامدونات الثريا

التكافلُ .. سلوكٌ راقٍ في قريةِ الأكواخِ!

عُرفَ عن رجلٍ عجوزٍ حكيمٍ كثرةُ سفرِه بينَ المُدنِ الهنديةِ، يحاولُ في رحلاتِه زراعةَ القِيَمِ الجميلةِ بينَ الناسِ، وذاتَ يومٍ وصلَ صاحبُنا إلى قريةٍ صغيرةٍ، فاقتربَ من أحدِ الأكواخِ؛ وطرقَ بابَه؛ فتحَ صاحبُ الكوخِ بابَه، فقالَ له الرجلُ العجوزُ: “لقد ظلَلتُ مسافراً لأيامٍ عديدةٍ، فهل يمكنُ أنْ تُعطيَني بعضَ الماءِ والطعامِ أسُدُّ به رمقي؟”.

نظرَ صاحبُ الكوخِ إلى الرجلِ العجوزِ في ثيابِه الرّثّةِ وقال: “ليس لديَّ ما أستغني عنه؛ فرحلَ لِحالِ سبيلِه”، ثُم طرقَ بابَ كوخٍ ثانٍ؛ وطلبَ ماءً وطعاماً؛ ولكنْ مرّةً أخرى ردَّ صاحبُ الكوخِ البابَ في وجهِه! .

وفي المرّةِ الثالثةِ طرَقَ الرجلُ بابَ كوخٍ ثالثٍ؛ ففتحتْ البابَ امرأةٌ؛ فرأى الرجلُ العجوزُ أطفالَها يلعبونَ في الداخلِ، فطلبَ منها أنْ تُعطيَه بعضَ الطعامِ والشرابِ، لكنها ردّتْ قائلةً: “كيف أُطعِمُكَ وأنا بالكادِ أستطيعُ إطعامَ أطفالي؟!”.

أدركَ الرجلُ العجوزُ أنّ المرأةَ تمتلكُ قلباً طيباً؛ وتريدُ بالفعلِ أنْ تساعدَه، عندَها سألَها: هل لديكِ إناءٌ للطبخِ؟ فردّتْ المرأةُ: “بالطبعِ لديَّ”، فقالَ لها: “حسَناً، لديَّ في جيبي حَجرٌ سِحريٌّ؛ إذا ملأتُ إناءَ الطبخِ ماءً؛ وألقيتُ فيه الحجرَ السحريَّ؛ فإننا نستطيعُ أنْ نصنعَ حَساءً سحرياً”!

لم تشعرْ المرأةُ بالطمأنينةِ تُجاهَ قولِ العجوزِ؛ لكنها قرّرتْ أنْ تفعلَ ما يطلبُه؛ فدخلتْ المرأةُ والرجلُ إلى الفناءِ الخلفي للكوخِ؛ ووضعا الإناءَ فوقَ النارِ؛ عندَها دسَّ الرجلُ العجوزُ يدَه في جيبِه؛ وأخرجَ الحَجرَ السحريَّ؛ وألقاهُ في الإناءِ،؛ هبطَ الحجرُ إلى قاعِ الإناءِ؛ أخذَ الرجلُ المِلعقةَ الخشبيةَ وتذوّقَ الحساءَ؛ ثُم نظرَ إلى المرأةِ وقالَ: “إنّ طعمَ الحساءِ جيدٌ؛ ولكنه يحتاجُ إلى شيءٍ آخَرَ، فهل لديكِ جزَراً؟

كان لدَى المرأةِ بِضعُ جَزراتٍ؛ فذهبتْ وأحضرتْها وأضافتْها إلى الحساءَ؛ وبدأَ الرجلُ العجوزُ يتذوّقُ الحساءَ مرةً أخرى؛ لكنه لم يُعجِبْهُ بعدُ، فقال: “هل لديكِ أيَّ بطاطس؟ نظرتْ المرأةُ إلى الرجلِ العجوزِ وقالت له: “إنني لم أرَ البطاطسَ لأسابيعَ طويلةٍ!”، في ذلكَ الوقتِ، كان البعضُ من أهلِ القريةِ قد سمعوا بحكايةِ الرجلِ العجوزِ؛ فتَجمَّعوا ليعرفوا ما يحدُثُ.

عندها قالت إحدى النسوةِ: “أنا لديَّ بطاطس”؛ وذهبتْ وأحضرتْ بعضَ حبّاتِ البطاطسِ من كوخِها؛ وأضافتها إلى الإناءِ.

تذوّقَ الرجلُ العجوزُ الحساءَ مرّةً أخرى؛ ولكنه لم يَرضَ عن طعمِه بعدُ فقالَ: “إنه لا يزالُ بحاجةٍ إلى بعضِ البصلِ”، عندها تطوّعتْ واحدةٌ أخرى من أهلِ القريةِ؛ وأحضرتْ البصلَ؛ فوضعَه في الإناءِ. واستمرَّ الأمرُ على هذا المنوالِ لبعضِ الوقتِ؛ وظلَّ كلُّ واحدٍ من أهلِ القريةِ يضيفُ شيئاً جديداً إلى الحساءِ.

وأخيراً، تذوّقَ الرجلُ العجوزُ الحساءَ؛ وابتسمَ وقالَ: “إنه أصبح رائعاً”؛ وغمَسَ الرجلُ الملعقةَ الخشبيةَ في الإناءِ؛ وأعطاها للمرأةِ التي ساعدتْه أولاً؛ فتذوّقتْ المرأةُ الحساءَ وقالتْ: “إنه رائعٌ بالفعلِ؛ ثُم مرّرَتْ الملعقةَ إلى أهلِ القريةِ المتجمعينَ حولَها؛ وبدأَ الجميعُ يستمتعونَ بالحساءِ؛ عندَها استدارتْ المرأةُ إلى العجوزِ لتَشكُرَه؛ ولكنها وجدتْ أنه اختفَى! .

في هذا اليومِ، تعلّمَ أهلُ القريةِ درساً مُهِماً للغايةِ؛ لقد تعلَّموا أنه وعلى الرغمِ من معاناةِ كلِّ شخصٍ منهم على حِدَه؛ من أجلِ توفيرِ الطعامِ والشرابِ لأبنائه؛ إلّا أنهم وبتوحيدِ جهودِهم ومَواردِهم؛ أصبح كلُّ واحدٍ منهم يعيشُ حياةً أفضلَ وأجملَ.

هكذا هي الحياةُ…؛ بعضُ الناسِ يرونَها قبيحةً إلى أبعدِ الحدودِ؛ ذلكَ لأنهم لا يستأنِسونَ بغَيرِهم؛ ولا يَقبلونَ فكرةَ التعايشِ الاجتماعي؛ فيَنطَوونَ على أنفسِهم، فتستمرُّ معاناتُهم؛ لأنهم أوصلوا أنفسَهم إلى درجةٍ كبيرةٍ من الإحباطِ.

ولكنْ في المقابلِ، فإنّ هناك أناساً كثيرينَ يرَونَ الحياةَ جميلةً جداً؛ وبصورةٍ وَرديةٍ منقطعةِ النظيرِ؛ ذلكَ لأنهم يختلِطونَ بمَن حولَهم؛ ويعيشونَ مع غيرِهم بما يتوافَقونَ عليه من قِيَمٍ وأخلاقٍ؛ ويتبادلونَ معهم أجملَ لحظاتِ هذه الحياةِ المؤقَّتةِ! .

وليس بعيداً علينا جميعاً الحالةُ الإنسانيةُ التي نعيشُها في مجتمعِنا الفلسطينيّ، فما أحوَجَنا إلى بعضِنا البعضِ!؛ نلتمسُ حوائجَنا؛ ونتفَقدُ بعضَنا؛ ونتحسَّسُ جيرانَنا.

لا تكادُ تُحصَى ولا تُعَدُّ تلكَ الآياتُ القرآنيةُ الكريمةُ؛ والأحاديثُ النبويةُ التي تُرشِدُنا إلى مِثلِ هذه المعاني الراقيةِ في التكافلِ والتعاونِ الجماعي، ولعلّنا نَفقهُ ماذا يَعني “المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ المرصوصِ يشُدُّ بعضُه بعضا”، تماماً كالدرسِ الذي جسّدَه واقعاً ذلكَ العجوزُ الهنديُّ في قريةِ الأكواخِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى