المهندسُ “عماد العلمي” .. عقلُ ثائرٍ، وقلبُ مُرَبٍّ، وتاريخُ مُجاهدٍ

السعادة _ آلاء عاطف النمر
عَن رجلٍ غَلبَ عَليه صَمتُه رُغم ثورتِه، هُدوؤه رغمَ مَثارَ غضبِه، صَبرُه رغمَ مَا ألمَّ به من مصائبَ، ذو أنفاسٍ طويلَةٍ، شديدُ التحمّلِ رغمَ رِقّتِه، بحَوزتِه عَقلٌ كبيرٌ، يخوضُ المعاركَ وينتصرُ عليها دونَ إشعارِ مَن حولَه، دقيقُ التفريقِ بينَ حساباتِه الخاصةِ وحساباتِ عملِه، مُتّسِعٌ في ثقافتِه ومُطالعتِة الكتبَ الدّسمةَ، كما يُجيدُ مَهمةَ الغوصِ إلى أعماقِ المجلّداتِ المختصةِ بمجالِ التفسيرِ؛ وخاصةً لصاحبِها “ابن كثير”، متمسّكٌ بوَصلِ أرحامِه رغمَ تشعُبِ انشغالاتِه، يتقدّمُ واجهةَ قياداتِ حركةِ حماس؛ إلّا أنه يتحفظُ على ظهورِه أمامَ شاشاتِ التلفزةِ، وخلفَ أقلامِ الإعلاميينَ، تلك بعضٌ من شخصيةِ القيادي الفقيدِ “عماد خالد نامق العلمي”.
مع شريكِ مشوارِه الطويلِ، شريكةِ الإبعادِ، وشريكةِ واحدٍ وعشرينَ عاماً من الغربةِ والسفرياتِ المتفرّقةِ، شريكةِ القراراتِ المصيريةِ، وشريكةِ دربِ الدعوةِ المُعبَّدِ بالأشواكِ، وشريكةِ تربيةِ ستةٍ من الأبناءِ، مع “سوزان الهندي” زوجةِ القيادي الفقيدِ “عماد العلمي”، كانت في ضيافةِ “السعادة” لتتعرفَ إلى تفاصيلِ حياتِه، بعدَ أنْ وافتْهُ المَنيّةُ في الثلاثينَ من شهرِ يناير من عامِ ( 2018)؛ بعدَ حادثٍ مؤسِفٍ حلَّ به جرّاءَ تفقُدِه لسلاحِه الشخصي.
يبحثُ عن عروسٍ
في منتصفِ الثمانيناتِ، كانت “سوزان الهندي” قد أنهتْ دراسةَ البكالوريوس من تخصُّصِ إدارةِ الأعمالِ، بانتسابٍ من جامعةِ بيروتَ في لبنانَ، وكانت قد أنهتْ كذلك كلَّ محاولاتِ خِطبتِها؛ بحُجّةِ نيّتِها إكمالَ دراستِها الجامعيةِ؛ إلى أنْ وصلتْ إلى واحدةٍ من المحاولاتِ الأخيرةِ التي لم تَصُدّها.
“عماد العلمي” لم يختَرْ عروسَه على حسبِ فرضياتِ أمِّه؛ التي كانت تَعرضُ عليه خِياراتِها من داخلِ العائلةِ وخارجِها، ويقومُ هو بدَورِه بالرفضِ المتكرّرِ لها، فكان بحثُه عن عروسِه يخضعُ لشروطِه الخاصةِ.
وقبلَ أنْ يطرُقَ “العلمي” بابَ بيتِ “الهندي”؛ فضّلَ أنْ يُلقيَ عليها نظرةً أوَليّةً من مسافةٍ قريبةٍ، فكان طرْحُ إخوانِه عليه أنْ يدخلَ القاعةَ التي تُلقي فيها دروسَها الدينيةَ في مسجدِ العباسِ، وكان قد حصلَ فانطلقَ لخِطبتِها.
تقولُ الهندي: “عماد لم يكنْ رجلاً عادياً في أيِّ شيءٍ، فقد كانت أُولى هدايا الخِطبةِ التي أتى بها إليَّ (مجموعةَ كُتبِ الظلالِ)، وكانت أولى الزياراتِ له إلى بيتِنا؛ تَحملُ بين ثناياها تفسيراً مُعمّقاً وجامعاً لسورةِ غافر، التي بدأنا بها حياتَنا، فكان لهذه السورةِ على وجهِ الخصوصِ أنْ تحتلَّ مكانةً عزيزةً في قلبي، وكُنا كذلك مُشتركينَ في ذاتِ الطريقِ التي سلَكناها معاً في نُصرةِ الدعوةِ التي تَعاهدْنا على إحيائها وحمايتِها”.
مشروعُ مستوطَنةٍ
بعدَ إنهاءِ “العلمي” لدراستِه الجامعيةِ من تخصُّصِ الهندسةِ المَدنيةِ؛ كان جُلُّ اهتمامِه يتركّزُ في عملِه المختصِّ بتنفيذِ المشاريعِ الهندسيةِ على أرضِ الواقعِ؛ بعدَ المصادقةِ عليها كمِهنةٍ شخصيةٍ له، وكواحدةٍ كذلكَ من محاولاتِ إبعادِ الأنظارِ عنه؛ في وقتٍ كان فيه قطاعُ غزةَ يخضعُ لحُكمِ الاحتلالِ.
أوّلُ إبعادٍ
تستجلبُ “زوجةُ العلَمي” بعضَ تفاصيلِ حكاياتِها مع شريكِ دربِها؛ الممتلئةِ بتفاصيلَ أكبرَ من كونِها تنحصرُ في عددِ السنواتِ والأشهرِ والأيامِ.
تقولُ وكانت قد وضعتْ مولودتَها الأولى “هبة”: “بدايةُ إعلانِ حركةِ حماس عن ولادتِها، مع اشتعالِ انتفاضةِ الحجارةِ؛ كان الاحتلالُ قد اعتقلَ زوجي؛ وحَكمَ عليه بالسَّجنِ لعامينِ كاملينِ في سجنِ النقبِ؛ بحُجّةِ التحريضِ الإعلامي، وشَحذِ هِمَمِ الشبابِ لمواجهةِ جموعِ المستوطنين”.
وبعدَ الإفراجِ عن “العلمي” مباشرةً؛ كانت قد حدثتْ أولُ عمليةِ طعنٍ في شارعِ يافا شرقَ مدينةِ غزةَ؛ بمشارَكةٍ من الأسيرِ المحرّرِ “أشرف البعلوجي”؛ ما دفعَ الاحتلالَ إلى أخذِ قرارِه الحاسمِ بملاحقةِ وإبعادِ أكبرِ المؤثِّرينَ في الرأيِّ العام الفلسطينيّ، وحُدّدتْ بأربعِ شخصياتٍ بارزةٍ وهم، (عماد العلمي، مصطفى القانوع، مصطفى اللداوي، وفضل الزهار).
وبذلك تبدأُ أولى عملياتِ الإبعادِ التي حملتْ “عماد العلمي” بزوجتِه إلى خارجِ البلادِ، وكانت وِجهةُ الشتاتِ نحوَ السودان، فعاشَ فيها برفقةِ زوجتِه ستةَ أشهرٍ؛ تكلّلتْ بلقاءاتٍ وفعالياتٍ مؤثّرةٍ؛ تحملُ عنوانَ القضيةِ الفلسطينيةِ في جنباتِها، تخلَّلها كذلك لقاءاتٌ شخصيةٌ مع “البشير” رئيسِ السودان؛ والذي استقبلَ الجاليةَ الفلسطينيةَ في قصرِه، لتكونَ السودانُ من أكثرِ البلدانِ تعاطُفاً مع الشعبِ الفلسطيني.
تقولُ زوجةُ العلمي: “الرحلةُ القسرِيّةُ إلى السودانِ أَسستْ لمرحلةٍ فاصلةٍ وكبيرةٍ بالنسبةِ لوضعِ حركةِ حماس بينَ الدولِ العربيةِ، وكانت فرصةً ذهبيةً لإيصالِ صوتِ القضيةِ الفلسطينيةِ لأبعدِ مدَى؛ بحَسبِ مخرَجاتِ الزيارةِ التي انتهتْ بابتعاثِ زوجي إلى إيران، وتنصيبِه عضواً في المكتبِ السياسي لحركةِ حماس”.
تتابعُ حديثَها: “حركةُ حماس كانت ذكيةً جداً؛ حينَ اختارتْهُ ليكونَ ممثِّلاً عنها في إيران، فعائلةُ العلمي يتّصلُ نسلُها بالرسولِ محمد _صلى الله عليه وسلم_ وكان ذلك يدفعُ الإيرانيينَ للترحيبِ “بالعلَمي”؛ على اعتبارِ أنه من الأشرافِ، وكانوا يلقبونَه “بالسيّد” على سبيلِ رِفعةِ المَقامِ”.
بينَ أبنائه
بعدَ خمسِ سنواتٍ من الإبعادِ الأولِ؛ كانت حياةُ “العلمي” قد استقرّتْ في دولةِ الأردن؛ أقربِ الدولِ إلى الحياةِ الفلسطينيةِ، والمعارفِ العائليةِ والأصدقاءِ والأقاربِ، فأَسسَ بداخلِها مكتباً لحركةِ حماس؛ ضمَّ أبرزَ قياداتِها المتواجدينَ هناكو منهم: (خالد مشعل، ومحمد نزال، وموسى أبو مرزوق).
عدمُ توقُفِ “العلمي” عن أنشطتِه، وزياراتُه، وتشبيكُه مع أبرزِ القياداتِ العربيةِ، ووضعُهم في صورةِ الوضعِ الفلسطيني؛ أعطى قراراً لدولةِ الأردنِ بطَردِه إلى الخارجِ؛ عبرَ صكوكِ الإبعادِ للمرةِ الثانيةِ على التوالي!.
وحملَ القرارُ أيضاً إغلاقاً لمكتبِ الحركةِ في الأردنِ؛ بعدَ تفريقِ شمْلِ الأُسرِ نحوَ الدولِ المُجاورةِ، وسحبِ أولادِهم كذلك من المدارسِ والجامعاتِ، لتُسجّلَ حماس في ذلكَ الوقتِ نقطةَ انسحابٍ رسميةٍ من دولةِ الأردن.
دفع ذلكَ “العلمي” للخروجِ إلى إيران؛ ليرَى أيَّ الدولِ العربيةِ تستعدُّ لاستقبالِه برفقةِ زوجتِه وطفلَيهِ، إلى أنْ رحّبتْ به سوريا؛ وفتحتْ ذراعَيها لاستقبالِه في عامِ 95)) .
بدأتْ حياتُه من جديدٍ في سوريا، وأنجبَ بقيةَ أطفالِه في ذاتِ البلدِ؛ ليصبحَ في حصيلتِه اثنانِ من الأبناءِ “همّام، وأحمد”، وكان الأخيرُ تيَمُناً باسمِ الإمامِ “أحمد ياسين”، وأربعٌ من البناتِ “هبة، تُقى، سُندس، سارة”.
آخِرُ الرحلاتِ
الرحلةُ إلى سوريا كانت آخِرَ مَحطّاتِ الاستقرارِ بالنسبةِ لأُسرة “أبو همام العلَمي”؛ التي عاشت مراحلَ المُطاردةِ، والإبعادِ، وشتاتِ الأسرةِ من دولةٍ إلى ثانيةٍ لواحدٍ وعشرينَ عاماً من الاغترابِ؛ ولكنها لم تكنْ نهايةَ المطافِ، ولم تَختتمْ فصولَها في دولةِ سوريا، بل كبرَ إصرارُ العودةِ في قلبِ “أبو همّام” حتى عادَ إلى غزةَ عامَ 2012)).
عاد “أبو همّام العلمي” إلى أرضِ وطنِه برفقةِ زوجتِه وأولادِه الستةِ، الذين التحقوا بدراسةِ الهندسةِ في شتّى مجالاتِها، فكان “همّام” قد أنهى دراسةَ الهندسةِ المعماريةِ، وأنهتْ “تُقى” دراستَها لهندسةِ الكمبيوتر، و”سُندس” أتمّتْ دراستَها للهندسةِ الصناعيةِ، ولا يزالُ “أحمد” يُكمِلُ تخصُّصَه في هندسةِ الاتصالاتِ بغزة، بينما وحدَها “هِبة” مَن تبِعتْ أباها في دراسةِ اختصاصِ الهندسةِ المَدنيةِ التي تُدعَى بـ “أم الهندسة”، وتبقَى “سارة” في صفوفِ الثانويةِ، وتَحملُ أمُّها أمنيَّةَ أنْ تدرسَ ابنتُها تخصُّصَ الطبِّ.
بعدَ عامينِ من مكوثِ عائلةِ “العلمي” في غزةَ؛ كانت قد بدأتْ الحربُ الثالثةُ _العصف المأكول_ عدوانَها على البيوتِ الآمِنةِ بالقصفِ بالصواريخِ والقذائفِ والبوارجِ البحريةِ تُجاهَ المَدنيينَ من الأطفالِ والنساءِ والرجالِ، وكلِّ من يقطنُ المدينةَ!.
الخامس عشر من شهرِ سبتمبر من عام(2014)، كان تاريخاً يسجّل نفسَه في صفحاتِ القيادي “عماد العلمي” الذي قُصفَ وبعضَ قياداتِ حركةِ حماس في أحدِ المنازلِ؛ ما تسبّبَ بإصابتِه وبَتْرِ إحدى قدَميهِ؛ بعد رحلةِ علاجٍ طويلةٍ استمرّتْ لتسعةَ أشهر في تركيا.
تقولُ أم همّام: “لم تؤثّرْ إصابةُ البتْرِ على نفسيةِ “أبو همام”؛ بل كان صابراً عجيبَ التحمُّلِ، وشديدَ الكَتمِ على أوجاعِه؛ التي كانت تَفوقُ التصوّرَ في حجمِها، حتى أنه لم يُطلِقْ صوتَه إلّا مُسبّحاً بحمدِ اللهِ مئاتِ المراتِ؛ كلما اشتدَّ به الألم؛ ما أثارَ استغرابَ الأطباءِ؛ ووصفوهُ حينَها بأنه ليس كالبشرِ العاديين”.
وتصِفُ أم همّام زوجَها بقولِها: ” أبو همّام رجلٌ رقيقٌ جداً، وكلُّ مَن عرفَه يَشهدُ بذلك؛ لكنّ هذه الصفةَ تنقلبُ إلى الشدّةِ؛ إذا واجهَتْ صعباً، كما شهدتْ له سجونُ الشبْحِ الصهيونيةُ، فكان صلباً عنيداً لا يُسلّمْ، ولا يَركنُ لعدوٍّ، بل كان شديد التحمل، ذو صبر لا ينفذ”!.
لم ينتهِ الحديثُ عن شخصيةِ القيادي؛ الذي عاد لوطنِه مُضمِراً أمنيَّةَ نَيلِه الشهادةَ، فكان له سَهمٌ في الرباطِ في سبيلِ اللهِ، وسهمٌ في العملِ العسكري، كما سبقَ وأنْ سجّلَ سهاماً في المجالِ السياسيّ والإنسانيّ، فلم تكنْ لياليهِ _التي قضّاها مُتضَرِّعا، ومُلِحاً على اللهِ بأنْ يرزقَه الشهادةَ؛ ليختِتمَ بها حياتَه_ قد راحتْ سُدى، كما احتسبَه أهلُه وجماعتُه عن عُمرٍ يناهزُ اثنينِ وستينَ عاماً!.