فلسطين تجمعنافلسطينيات

شوشحلة .. (4) فلسطينيينَ يواجِهونَ الاستيطانَ وحدَهم في قريتِهم المُهجّرةِ

شابٌّ ووالدُه وطفلتُه وزوجتُه؛ يَقضونَ حياتَهم داخلَ منزلٍ بدائيّ!

شوشحلة .. (4) فلسطينيينَ يواجِهونَ الاستيطانَ وحدَهم في قريتِهم المُهجّرةِ

أحمد مصطفى – السعادة:

في آخِرِ بقعةٍ في بلدةِ الخضرِ جنوبَ مدينةِ بيتَ لحمَ؛ يلُفُّ الخوفُ والحذرُ المكانَ داخلَ قريةِ “شوشحلة” المهجّرةِ، فالقادمُ إليها يشعرُ وكأنه يعيشُ في العصورِ البدائيةِ؛ فلا طريقَ يَسلُكه المارّةُ سِوى الجبالِ الوَعرةِ، عدا عن الرعبِ الذي يستوطنُ قلبَه… فكُل زوايا القريةِ مُوحشةٌ؛ لِخُلُوِّها من البشرِ، إذ تفتقرُ إلى معالمِ الحياةِ، ولا يوجدُ فيها بيوتٌ سِوَى كوخٍ صغيرٍ صُنعَ من الطينِ والصفيحِ؛ تعيشُ فيه عائلةٌ مكوّنةٌ من ((4 أفرادٍ!.

المواطنُ الفلسطينيّ مهند صلاح، البالغُ من العمرِ (37) عاماً، العائدُ إلى قريتِه المهجّرةِ عامَ (1967) شوشحلة، يعيشُ هو وزوجتُه، ووالدُه السبعيني، وطفلتُه “سيدار” _ذاتُ العشرةِ أعوامٍ_ حياةً بدائيةً، فعلى الرغمِ من كلِّ ما يحيطُ بهم من مَخاطرَ، وما يتعرضونَ له من اعتداءاتٍ من المستوطنينَ والجنودِ؛ إلّا أنهم فضّلوا البقاءَ في أرضِهم؛ ليحافظوا على ما تَبقَّى من أراضٍ أُصيبتْ بسرطانِ الاستيطانِ.

“السعادة” زارتْ قريةَ “شوشحلة” المكنوّنة من بيتٍ وجامعٍ قديمٍ، فالمنزلُ الذي يعودُ للمواطنِ “مهند صلاح” هو بدائيٌّ؛ ومكوّنٌ من غرفةٍ حجريةٍ مبنيةٍ من حجارةٍ مرصوصةٍ فوقَ بعضِها؛ كالتي تُبنَى منها سلاسلُ الحجرِ في الأرضِ الزراعيةِ، وبالقربِ من المنزلِ بئرُ مياهٍ قديمٌ، ومَوقدٌ حديديّ متآكِلُ بفعلِ الصدأِ، وعلى مقرُبةٍ من ذلك المنزلِ يزرعُ الشابُّ الثلاثيني مساحةً صغيرةً من الأرضِ بنباتاتٍ عُشبيةٍ، ويُربّي داخلَها عدداً من الطيورِ والمواشي؛ ليعتاشَ منها هو وعائلتُه الصغيرةُ.

أمّا الجامعُ فهو اسمٌ فقط؛ وبناؤه الحجريُّ القديمُ شِبهُ مُهدّم! كان يؤذَّنُ فيه قبلَ عقودٍ؛ لكنّ أذانَ الرحيلِ كان له دَوِيٌّ أعلَى في مسامعِ أهلِ القريةِ.

العودةُ إلى الأرضِ :

هاجرتْ (22) عائلةً من قريةِ “شوشحلة” عامَ ((1967، وتوَجّهوا للسكنِ في مدينةِ بيتَ لحم، وبلدةِ الخَضْرِ القريبةِ منها؛ هرَباً من جرائمِ العصاباتِ الصهيونيةِ آنَذاكَ، وفي عامِ        ( 1997 ) عادَ الفلسطينيُّ “مهند صلاح” ووالدُه إلى بلدتِه المهجّرةِ، وأعادَ ترميمَ منزلِ جدِّه، ومسجدَ البلدةِ ومقبرتَها التاريخيةَ، ومنذُ ذلكَ الوقتِ يعيشُ وحيداً هو وأُسرتُه في قريتِه المهجّرةِ؛ ليواجِهَ شبحَ الاستيطانِ.

يقولُ السبعينيّ أبو مهند صلاح:” إنّ وجودي في قريتي؛ وصمودي في وجهِ الاستيطانِ؛ هما إثباتٌ لِحقّي في أرضي، وحتى أعيدَ ترميمَ ما دمّرتْهُ القواتُ الإسرائيليةُ، وأحافظَ على ما تبَقّى من الأرضِ، فهذه الأرضُ كلُّ ما أملكُ، فعليها كبرتُ وتزوجتُ، والآنَ أعيشُ أنا وأسرتي الصغيرةُ، وسأبقَى في منزلي البدائيّ؛ حتى تكبَرَ عائلتي؛ وأُعيدَ حقّيَ المسلوبَ.

ووقفَ السبعيني “أبو مهند صلاح” في لحظاتِ الغروبِ؛ على مقرُبةٍ من كوخِه المقابلِ لسياجٍ حدوديٍّ مُضيءٍ؛ على طولِ المستوطناتِ الممتدةِ في الأراضي المقابلةِ لمنزلِه البدائي؛ يقولُ مشيراً بيَدِه:” إنّ (6) مستوطناتٍ التَهمتْ أراضي القريةِ؛ فهذه (افرات، اليعازر، وسيدي بوعز، وعصيون، وبيتار عيليت، ومجدال عوز) ولكنهم لن يمنعوني من العودةِ إلى أرضي لترميمِ منزلِ والدي وجدي من قبلي؛ وسأُوَرِّثُه لابني من بَعدي، وقد أعَدنا البناءَ فيه من جديدٍ لنَحميَ أرضنَا، ونمنعَ المستوطنينَ من السيطرةِ على ما تَبقّى من أراضٍ في قريتِنا المهجّرة”.

وتعتلي “شوشحلة” قِمةَ الجبلِ؛ وتطلُّ على صفٍّ من المستوطناتِ، فيما يقعُ منزلُ “مهند” وسطَ تجمُّعِ مستوطناتٍ تحيطُه هو والقريةَ من الجهاتِ الأربعِ، وهي مستوطناتُ (دانيال، وسدي بوعز، وأفرات، وإليعازر، وكفار عتصيون، ومجدال عوز)، فيما يمرُّ وسطَ أراضي القريةِ شارعُ (60) الاستيطاني؛ الذي يربطُ مدينةَ القدسِ بمستوطناتِ محافظةِ الخليلِ.

العائلةُ الوحيدةُ :

على الرغمِ من مرارةِ الحياةِ، وحصارِ المستوطناتِ؛ إلّا أنّ الشوشحليين الأربعةَ فرِحينَ بأنهم استطاعوا الصمودَ أمامَ هذا الكمِّ الهائلِ من الاستيطانِ؛ الذي عجزَ العالمُ عن الوقوفِ أمامَه، فكان قرارُ البقاءِ _الذي اتّخذَه الشابُّ “صلاح”؛ منذُ تسلّمَ عُهدةَ القريةِ من والدِه بعدَ جدِّه قبلَ 20)) عاماً_ صعباً، إذ تمنعُ إسرائيلُ البناءَ والماءَ والكهرباءَ عنه!.

ويقولُ الشابُّ “مهنّد” مُتكِئاً على لوحٍ خشبيٍّ معلّقٍ على الحجارةِ المرصوصةِ على جدرانِ منزلِه :” “كبرتُ هنا، وتزوجتُ هنا، وبقيتُ وحدي هنا، وجَدُّ جدّي كان هنا، فأنا الوحيدُ المسجّلُ في بطاقةِ هويتي الشخصيةِ مكانُ السكنِ قريةُ (شوشحلة)، أمّا بقيةُ سكانِ القريةِ الذين هاجروا من القريةِ _بفعلِ الظروفِ القاسيةِ، والممارساتِ الإسرائيليةِ_ إلى قريةِ الخَضرِ التي هي مَقَرُّ إقامتِهم في بطاقةِ الهوية”.

ويضيفُ:” عندما تزوجتُ اشترطتُ على زوجتي قَبولَ السكنِ معي في القريةِ، فأنا لا أبحثُ عن الفقرِ والتخلّفِ، لكنّ حُبَّ الأرضِ، والحفاظَ عليها؛ دفعاني للعيشِ في بيتٍ من الطينِ، مُنعزِلٍ عن العالمِ بلا ماءٍ أو كهرباءٍ أو خدماتٍ!.

ورغمَ وجودِ “صلاح” في قريةٍ نائيةٍ بعيدةٍ عن المناطقِ الآهِلةِ؛ فإن طفلتَه “سيدار” تدرسُ في مدرسةٍ ببلدةِ الخضرِ، التي تبعدُ مسافةَ خمسةِ كيلومترات عن منزلِه البدائي، إذ ينقلُها يومياً على عربةِ حمارٍ في الصباحِ والمساءِ!.

ويقولُ الشابُّ مُهند:” إنّ ابنتي تعلّمتْ حُبَّ الأرضِ، فقد أنشأتُها داخلَ هذا المكانِ؛ لأننا نريدُ العيشَ بسلامٍ داخلَ أرضِنا المهجّرةِ، فبدَلاً من أنْ نتنقلَ عبرَ الجبالِ الوعرةِ؛ نبني مدرسةً في هذه القريةِ، ونبدأ بإعادةِ المهجّرينَ إليها، وتعودُ الحياةُ ومعالمُها إلى القريةِ، وهذا ما أطمحُ إليه، من خلالِ صمودي وبقائي”.

حياةٌ بدائيةٌ :

وفيما يتعلّقُ بطبيعةِ الحياةِ داخلَ منزلِه البدائي، وكيفيةِ تأمينِ متطلباتِ الحياةِ اليوميةِ لأسرتِه؛ يقولُ الشابُّ صلاح:” على الرغمِ من عدمِ توافرِ المياهِ والكهرباءِ في القريةِ؛ فإنني أعيشُ أنا وأسرتي حياةً بدائيةً جداً، في منزلٍ مشيّدٍ من الحجارةِ الصخريةِ والطينِ، ونضيئه باستخدامِ لمبةٍ قديمةٍ تعملُ بواسطةِ الكاز، ونحصلُ على الماءِ من بئرٍ قديمةٍ قمتُ بترميمِها، أمّا لِطَهي الطعامِ والتدفئةِ؛ فأستخدمُ الحطبَ والأخشابَ المتوافرة”.

اعتداءاتٌ…

ويقولُ الشابُّ صلاح:” إنّ وجودي داخلَ القريةِ يشكّلُ خطراً حقيقاً على المستوطنينَ؛ بفِعلِ تمسُّكي بأرضي، لذلك أواجِهُ خطراً يومياً؛ حيثُ أتعرّضُ لاعتداءاتِ المستوطنينَ: من تقطيعٍ للأشجارِ، وتخريبِ المحاصيلِ الزراعيةِ، وتوجيهِ الشتائمِ لنا، فيما تُغلِقُ قواتُ الجيشِ الإسرائيلي الطرُقَ الزراعيةَ على القريةِ، وتمنعُ المَركباتِ من الوصولِ إليها”.

ويشيرُ إلى أنه تعرّضَ للاعتقالِ مراتٍ عدّة من قِبلِ الجيشِ الإسرائيلي، آخِرَها في عامِ (2016)؛ عندما أحرقتْ مجموعةٌ من سكانِ مستوطنةِ (كفار عتصيون) منزلَه، ولم يُطلَقْ سراحُه إلّا بعدَ دفعِ غرامةٍ ماليةٍ طائلةٍ للمحكمةِ الإسرائيليةِ!.

ويقولُ الشابُّ “مهند”؛ مشيراً بيَدِه إلى المستوطناتِ المحيطةِ بقريتِه:” أعيشُ وسطَ تجمُّعٍ استيطانيّ منذُ عامِ (1997)، وشهِدتْ المنطقةُ منذُ ذلك الوقتِ توَغُلاً استيطانياً جنونياً، فمستوطنتا إليعازر، وكفار عتصيون، لا تبعدانِ سِوى عشراتِ الأمتارِ عن منزلي وأرضي، إذ يدخلُ سكانُها إلى القريةِ؛ ويَخرجونَ منها بسهولةٍ، كما أشاهدُهم كلَّ يومٍ وهم يترصّدونَ تحرُّكاتي؛ حتى يخرجوني من منزلي؛ لكنني لا أخافُ منهم، ولا أهابُ ممارساتِهم”.

قريةٌ أثَريةٌ

وتقعُ قريةُ “شوشحلة” في المنطقةِ “ج”؛ والتي تخضعُ إلى السيطرةِ الإسرائيليّة، وتشكّلُ هذه المنطقةُ (60 %) من أراضي الضفّةِ الغربيّةِ، حيثُ حافظتْ فيها إسرائيلُ على سيطرةٍ شِبهِ تامّةٍ، وذلك عُقبَ توقيعِ الاتّفاقِ الانتقاليّ  بشأنِ الضفّةِ الغربيّةِ وقطاعِ غزّةَ؛ المعروفِ بـ “أوسلو 2″ في عامِ (1995) بينَ إسرائيلَ ومنظّمةِ التحريرِ الفلسطينيّة، فيما تُعَدُّ القريةُ مكاناً أثريّاً؛ لِما تضُمُّه من معالمَ وآثارٍ تاريخيةٍ تعودُ لحقبٍ زمنيةٍ قديمةٍ.

وعن ذلك يقولُ ممثّلُ هيئةِ مقاومةِ الجدارِ والاستيطانِ في بيتَ لحم حسن بريجية:” إنّ “شوشحلة” هي قريةٌ أثريّةٌ وتاريخيّةٌ، وقد وُجدتْ آثارٌ وشواهدُ لأختامٍ عثمانيّةٍ على جدرانِ منازلِها، وأراضي القريةِ هي أملاكٌ خاصّةٌ تعودُ إلى مواطنينَ فلسطينيّين”، وإنّ “الهيئةَ تساندُ عائلةَ “صلاح”؛ لثباتِهم وتمسُّكِهم بالقريةِ، ورفضِهم مغادرةَ منزلِهم، وتقفُ إلى جوارِهم في وجهِ المخطّطِ الإسرائيليّ؛ الذي يلاحقُ القريةَ؛ ويسعى إلى تهويدِها بشتَّى الوسائلِ والطرُق”.

ويشيرُ إلى أنّ القريةَ يوجدُ فيها مَعاصرُ عنبٍ أثريّةٌ، وآبارُ مياهٍ، وقصورٌ تراثيّةٌ: كقصرِ حنبل التراثيّ. لافتا إلى أنّ المرحلةَ المُقبلةَ ستشهدُ إطلاقَ مسارٍ سياحيّ لزيارةِ قريةِ “شوشحلة”؛ والتعرّفِ من قُربٍ على معالمِها الأثريّةِ والتراثيّةِ؛ رغمَ العراقيلِ التي قد تواجِهُ هذا المسارَ؛ لأنّ القريةَ تقعُ في المنطقةِ “ج” الخاضعةِ  للسيطرةِ الإسرائيليّة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى