فاطمة الحلولي: ” صيانةُ الأجهزةِ الخلويةِ لُعبتي “

فاطمة الحلولي: ” صيانةُ الأجهزةِ الخلويةِ لُعبتي “
الإعاقةُ الضربةُ التي قوَّتني وأعطتني دفعةً إلى الأمامِ
أنْ تستقبلَك فتاةٌ في إحدى محلاتِ صيانةِ الأجهزةِ الخلويةِ؛ قد يبدو غريباً في غزةَ!، أمّا أنْ تستقبلَك فتاةٌ في محلٍّ كهذا داخلَ حيّ الشجاعيةِ؛ الأكثرِ شعبيةً وتمسُّكاً بالعاداتِ والتقاليدِ؛ فلا بدّ أنْ يستوقِفَك الأمرُ؛ فهو يكشفُ حجمَ التحدي الذي قادتْه تلكَ الفتاةُ؛ لتصبحَ واحدةً من مكوّناتِ حياةِ السوقِ فيه .
كامرأةٍ صحفيةٍ تشعُرينَ بالأملِ والسعادةِ؛ عندما تستمعينَ إلى قصةِ “فاطمة الحلولي”؛ والتي تحدّتْ الكثيرَ لتطرُقَ بابَ المجتمعِ بساقِها التي فقدتْها منذُ كانت رضيعةً؛ وقضتْ حياتَها أمامَ تفصيلِ ومسمَّى واحدٍ “ذوي الإعاقات الحركية”، وكيف قرّرتْ في لحظةٍ ترْكَ هذا المسمَّى وراءَها؛ لخوضِ تجاربِ الحياةِ من بابِها الكبيرِ! .
تقولُ فاطمة “36 ربيعاً ” لـ”السعادة” : إنها واحدةٌ من ضحايا الإهمالِ الطبي ، حيثُ أصيبتْ بالتهابٍ وهى رضيعةٌ؛ ومع عجزِ اكتشافِه تحوّلَ بعدَ أيامٍ إلى “غرغرينا” لم يتوقفْ سَريانُها بالجسدِ إلّا بعدَ بتْرِ ساقِها اليُسرى؛ وهي مازالت طفلةً رضيعةً! وأصبحتْ منذُ ذلكَ الحينِ من ذَوي الإعاقةِ الحركيةِ_ والتي بحسَبِ السائدِ في جهلِ مجتمعِنا_ أنْ تَقبعَ في الإعاقةِ، وتستسلمَ لِقَدَرِها المحتومِ.
تضيفُ:” في سنواتِ عمري الأولى؛ استطعتُ تحدِّي الإعاقةِ؛ ودرستُ كلَّ المراحلِ الأساسيةِ والثانويةِ في المدارسِ العاديةِ_ كأيِّ إنسانٍ سليمٍ_ و التي لم تكنْ مُجَهزةً حتى اليوم لاستقبالِ طفلٍ من ذوي الإعاقةِ مِثلي؛ لذا كانت الصعوباتُ التي تواجِهُني كطفلةٍ جمّةً وكبيرةً؛ لكنها بدأتْ تتلاشَى أمام عينَيّ في كلِّ مرحلةٍ أقطعُ فيها شوطاً تُجاهَ الحياةِ ، فمرحلةُ الابتدائيةِ كانت أقسَى من الإعداديةِ؛ أمّا مرحلةُ الثانويةِ فقد كانت الأصعبَ لفتاةٍ صاحبةِ إعاقةٍ في مجتمعٍ مَوصومٍ بالخوفِ والعارِ؛ حتى من إعاقةٍ أو مرضٍ نفسيٍّ!.
وتتابعُ: في الحياةِ الجامعيةِ كان التحدي مختلفاً؛ فأنتِ الآنَ أمامَ تحدّي( أنْ تكونَ أو لا تكونَ) أمامَ رعيلٍ كبيرٍ من الخرّيحينَ وحمَلةِ دبلومِ الخدمةِ الاجتماعيةِ الذي حصلتُ عليه من الكليةِ الجامعيةِ للعلومِ التطبيقيةِ؛ لذا اتّجَهتُ إلى الأنشطةِ غيرِ المنهجيةِ؛ وانضممتُ إلى اللجنةِ الرياضيةِ الأولمبيةِ “للمعاقين حركياً” في العامِ ( 2008)؛ بعدَ عددٍ من الاختباراتِ التي أثبتُ فيها قدرتي على ممارسةِ الرياضةِ والتمرُّس، والتي من خلالِها فتحتُ آفاقَ التواصلِ مع الآخَرينَ، وانتقلتُ من مرحلةِ الإعاقةِ إلى مرحلةِ تَجاوُزِ الإعاقةِ، وخوضِ غمارِ الحياةِ من أوسعِ أبوابِها.
عملتُ في أكثرَ من مشروعٍ للدعمِ النفسيّ الاجتماعيّ ، بَيْدَ أنّ الاستقرارَ الوظيفيّ لم يطرُقْ بابي رغمَ سنواتِ التخرّجِ الطويلةِ، والتمرّسِ في المجالِ الرياضي، ولاسيّما بعدَ تميُّزي في ألعابِ القوى مَحلياً وعربياً، و استطعتُ تمثيلَ فلسطينَ في دورةِ الألعابِ الأولمبيةِ العربيةِ؛ التي أُقيمتْ في دولةِ قطرَ عامَ (2011 )، في مسابقتَي رميِ القُلَّة والرمحِ ،وحصلتُ على المرتبةِ الخامسةِ عربياً آنذاكَ .
بعد هذه المرحلةِ بدأتُ البحثَ عن المكانِ الذي يحقّقُ لي الرضا الوظيفي الذي أحتاجُ إليهِ بعدَ العملِ والتطوعِ وممارسةِ الهواياتِ ، ولم يكنْ الأمرُ سهلاً؛ لاسيّما وأنّ الأوضاعَ الاقتصاديةَ بغزةَ المحاصَرةِ لا تستدعي إلّا مزيداً من جيوشِ البطالةِ ؛ لذا فكرتُ بالاتجاهِ إلى العملِ الخاص .
وبعدَ دراسةٍ متأنيةٍ قرّرتُ خوضَ غمارِ عالمِ الاتصالاتِ والأجهزةِ التكنولوجيةِ؛ فلديَّ مَيلٌ كبيرٌ لها… فالتحقتُ بإحدى الدوراتِ المتخصصةِ بصيانةِ الأجهزةِ الخلويةِ؛ ضِمنَ مشروعِ الإغاثةِ الإسلاميةِ لتنميةِ قدراتِ ومهاراتِ المعاقينَ حركياً في قطاع ِغزةَ ، وكنتُ حينَها الفتاةَ الوحيدةَ الملتحقةَ بالدورةِ ضِمنَ جموعِ الذكورِ.
تستدركُ :”رُبما كانت من أصعبِ المراحلِ في حياتي، فهُنا لا أتحدَّى الإعاقةَ، ولا أتحدّى إناثاً من الأصِحاءِ؛ لقد كنتُ أخوضُ عملاً خالصاً للرجالِ، وقد راوَدَني القلقُ كثيراً في بدايةِ الأمرِ ، وكنتُ أُحدّثُ نفسي بينَ الفينةِ والأخرى؛ هل اخترتُ خطأً؟ ، إلّا أنّ عائلتي كانت تنظرُ للأمرِ بطريقةٍ أخرى؛ فعندما علِموا بالقلقِ الذي يصيبُني بينَ الفينةِ والأخرى؛ كرّسوا جهودَهم ودعمَهم الكاملَ لدَفعي إلى الاستمرارِ والنجاحِ وخوضِ غمارِ التجربةِ.
وتواصل: بعدَ انتهاءِ مشروعِ التدريبِ؛ طلبتْ مِنا الإغاثةُ الإسلاميةُ تقديمَ مقترحاتِ مشاريعَ صغيرةٍ؛ نتمكنُ من خلالِها تكوينَ عملٍ خاصٍّ لكُلٍّ مِنا، وهنا طرأتْ لي فكرة كيف أُديرُ محلاً لصيانةِ الأجهزةِ الخلويةِ؛ وأنا من منطقةٍ شعبيةٍ بالكادِ تستوعبُ المرأةَ في الوظائفِ الحكوميةِ ، وبعدَ استشارةِ العائلةِ شجّعوني بكُل قوةٍ على تقديمِ طلبٍ؛ بل وخصَّصوا مكاناً لافتتاحِ المشروعِ داخلَ المنزلِ.
وترى “فاطمة” أنّ العملَ في مجالِ التكنولوجيا_ بإصلاحِ أجهزةِ الجوالاتِ المعطوبةِ لزبائنِها_ هو أمرٌ يلاقي اهتمامَها، وأنها تمرّستْ بالمهنةِ؛ وباتت أحدَ العناوينِ البارزةِ بمجالِ العملِ داخلَ منطقتِها؛ لاسيّما وأنّ الفتياتِ يُحَبِذْنَ التعاملَ مع سيدةٍ ؛ في ظِل ما يتمُ سماعُه بينَ الفترةِ والأخرى حولَ قصصِ الابتزازِ، وقصصِ سرقةِ الصورِ، وما إلى ذلك من تفاصيلَ.
وتتابعُ : كثيراتٌ يتعاملنَ معي بأَخويةٍ كاملةٍ؛ يترُكنَ هواتفَهُنَّ في قِسمِ الصيانةِ؛ بكُل المعلومات والصور الخاصةِ؛ وهذه الميزةُ غيرُ موجودةٍ في أيِّ مكانٍ آخَرَ على مستوى قطاعِ غزةَ، منوّهةً أنها كغيرِها من النساءِ في المجالاتِ المختلفةِ؛ تتعرّضُ للمتطفلينَ والفضوليّينَ ومُدَّعي الذكاءِ، والذين يقلّلونَ من قدراتِ المرأةِ؛ إلّا أنها _وعلى مدارَ سنواتِ مشروعِها الناجحِ_ استطاعتْ أنْ تُثبتَ لهم أنها قادرةٌ على إدارةِ حياةٍ ناجحةٍ بجدارةٍ .