“أبو زيد” سائقٌ أصمُّ يتقنُ دهاليزَ الطرُق !

يكتفي بإشاراتِ يدِه متحدثاً
“أبو زيد” سائقٌ أصمُّ يتقنُ دهاليزَ الطرُق !
السعادة _ آلاء عاطف النمر
زامورَ سيّارَتِه مِنْ نوع “فيات” ،لا يتوقفُ عَنِ الزعيقِ عَلى مَدارِ سَيْرِها في شَوارعِ المَدِينَة ,يُشيرُ به إلى حَاجتِه لراكبٍ جَديد يعتلي مَقاعدَ مَركبَته العامة بعدَ فراغها مِن غيرِه ,ورغمَ أنّه لا يتمكّن مِنَ النطقِ بكلمةٍ واحدةً إلاّ أنّ مركبتَه لا تَفرُغ مِن الركّاب طوال سَاعاتِ يومه المَليئةِ بـ “العملِ على الخط” كسائقِ عُمومِي ,والمثيرُ للدّهشةِ أنّه يمتلكُ مهارةٍ فذة في فهم خط سيرِ الراكبِ بِدّقة بَالغة دونَ سَمَاعِه لشيْء.
السائقُ الأصمُّ “محمد أبو زيد” يُكنى “بأبي ناصر”، يقطنُ في حيِّ الزيتون جنوبَ مدينة غزة , يناهزُ عمرُه نهايةَ الخمسين عاماً، بعدَ أنْ اكتسحَ الشيبُ مساحاتٍ ليست صغيرةً من رأسِه، وهو متزوجٌ من امرأتينِ: إحداهما أنجبتْ له ولدينِ، أصبحا شابّين يافعينِ، أمّا الأخرى فهي بلا أولادٍ.
تحدّى إعاقتَه :
“السعادة” كانت إحدى راكبي سيارة “أبي ناصر”_على سبيل القدَر_ ,فكان لها فضولُ التعرّفِ إلى شخصيتِه، والتفاصيلِ الدافعةِ لجعله يتمكّن من معرفة طريقِ الراكبِ، رغمَ فقْدِه لحاسةِ السمعِ، وكذلك صعوبة التحدّث إليه.
يكتفي “أبو ناصر” بابتسامةٍ صمّاء؛ كسبيلِ خطابٍ ثابت بينه وبين كلِّ من يركبُ معه، ويرافقُه إلى حيث يريدُ، وبقية الطريق يُكملُ بإشاراتِ يدِه نحوَ اتجاهاتِ الطرُق؛ ليفهمَ قِبلةَ سيرِ الراكبِ، والطريقَ التي يودُّ أنْ يسلَكها .
“السعادة” حاولتْ فهمَ بعضِ التفاصيلِ التي دفعتْ “أبو ناصر” لتحدي إعاقتِه، وخوضِه لميادينِ العملِ من بين الأصحاءِ، عبرَ ثقلِ كلماتِه التي ينطقُ بها بصعوبةٍ بالغةٍ، ولا يكادُ الشخصُ العادي يفهمُها! كذلك يكملُ بإشاراتِ يدِه ، وطأطأةِ رأسِه بين حين وآخَرَ، معبّراً عن رفضِه أو موافقتِه على اتجاهِ سيرِه ، ليكسرَ جداراً خُيّلَ إليه أنه أسمنتي كادَ أنْ يعزلَ بينه وبين الاختلاطِ بواقعِ الحياةِ بشكلٍ عام.
ابنُه “رمزي” تلقّى مَهمّة شرحِ قصةِ والدِه باختصار، بقولِه :” رغم إعاقةِ أبي التي تَحولُ بينه وبينَ التعاملِ الرسمي مع الناسِ بسهولةٍ؛ إلاّ أنه تغلّبَ على ذلك بتعلُّمِه أصولَ القيادةِ وسياقةَ السياراتِ على الخطِّ العمومي، ليحصلَ على الرخصةِ الرسميّة داخلَ الأراضي المحتلةِ، وقتَ أنْ كان مسموحاً له الدخولُ إلى هناك، وذلك ضمنَ المداومةِ على الالتحاقِ بعمالِ (الداخل المحتل)، ولو لم يأخذْ الرخصةَ داخلَ الأراضي المحتلة، لَما حصلَ عليها في غزةَ، فهو غيرُ مسموحٍ للأصمِّ تعلُّمُ رخصةِ قيادةِ السياراتِ؛ خوفاً على صحتِه من حوادثِ الطرقِ، واحتماليةِ وقوعِه في مشاكلَ كثيرة”.
انتصارٌ على الحصار :
يُكمل رمزي :”تحدّي والدي لإعاقةِ النطقِ والسمعِ بحدِّ ذاتِها، والمجابهةُ في أحلكِ الظروفِ الاقتصاديةِ الضيقةِ التي يمرُّ بها أهلُ القطاعِ بفعلِ الحصارِ، إنه انتصارٌ عظيمٌ حقّقَه على نفسِه وعلى واقعِه؛ ليهزمَ ضعفَه وقلّةَ حيلتِه في جلبِ قوتِ يومِه لبيتِه، ويتجنبَ مذلَّةَ السؤالِ”.
ويوضّح “رمزي” بأنّ والدَه يتمكّنُ جيداً من معرفةِ الطرقِ، والتمييزِ بين منفاذِ الشوارعِ المتشابهةِ، كما وصفَ والدَه بأنه يتسمُ بسياقةٍ هادئةٍ لا تعرفُ التهوُرَ والخروجَ عن القانونِ؛ ليحافظَ على سلامتِه وسلامةِ غيرِه من الناسِ المارّين في الطرقاتِ، مراعياً الأطفالَ والمُسنّين السائرينَ إلى جوانبِ الطرقِ العامةِ، وخاصةً في شوارعِ الخطِّ السريعِ، كخطِّ صلاح الدين الطويلِ الممتدِّ من جنوبِ قطاعِ غزة إلى شَمالِه مثلاً.
يقول رمزي :”أبي يعملُ كطبيبٍ لسيارتِه التي يخشى عليها من الهلاكِ؛ لكونِها سبباً رئيساً في جلبِ دخلِ يومِه، وتدبيرِ قوتِ أهلِ بيتِه، فهو يعرفُ علّتَها في حالِ عطلَتْ عن السيرِ، أو حدثتْ لها مشكلة”، أمّا عن المدهشِ فإنّ “أبو ناصر” يمتلكُ هاتفاً خليوياً، ويحتفظُ بداخلِه بأرقامِ أصدقائه! فما أنْ يهتزُ الهاتفُ من قبلِ أحدِ أصدقائه؛ فهذا يُعلِمُه بأنه عليه التوجُه إلى مكانِ تواجدِ صديقِه ليأخذَ طلبيةً جديدةً (حمولة كاملة) ضمنَ أوقاتِ عملِه الممتدِّ من الساعةِ التاسعةِ صباحاً، وحتى السابعةِ مساءً، متخلّلاً يومَه راحةً تقاربُ الساعةَ والنصف.
ثقلُ كلماتِ “أبو ناصر” التي يحاولُ جاهداً النطقَ بها_ في حالِ عجزَ الراكبُ عن فهمِه_ تذيبُ بداخلِه لوحاً ثقيلاً من اليأسِ، ليكونَ وقتَها قد نجحَ في إيصالِ ما يريدُ قولَه للجالسِ فوق مقاعدِ سيّارتِها الرّثة.
رغمَ وقوفِ ابنِه واسطةً للحديثِ؛ إلاّ أنّ مثابرة “أبو ناصر” واضحةٌ في الكدِّ لأجلِ استمرارِه في العيشِ بعزّة رغماً عن ضيقِ الحالِ مادياً ومعنوياً داخلَ قطاعِ غزة المحاصرِ منذُ عشرِ سنواتٍ، والتي بفعلِها فقدَ “أبو ناصر” عملَه داخلَ الأراضي المحتلة، وأصبح يتنقلُ بين بائعٍ على مفترقاتِ الطرقِ، وبين وقوفٍ خلفَ (بسطات) السوقِ بائعاً للحاجياتِ البسيطةِ، إلى أنْ استطاعَ أنْ يعملَ على سيارةِ نقلٍ عمومي، ليعرفَه كلُّ أهلِ حيِّه، ومعظمُ الذين يرتادونَ سيارتَه تكراراً .