فلسطين تجمعنافلسطينيات

“الناصرة” مدينةُ الأضواءِ والجمالِ والآثارِ

الحِضنُ الدافئُ لسلسلةٍ من المَعالمِ الأثريةِ

“الناصرة” مدينةُ الأضواءِ والجمالِ والآثارِ

“الناصرة” مدينةُ السِّحرِ والجمالِ! تميزتْ بكثرةِ مَعالمِها الجماليةِ والأثريةِ، فمن يدخلُها يشتَمُ رائحةَ التاريخِ والحضارةِ التي تعودُ إلى آلافِ السنين ، يشتَمُ الأصالةَ والعراقةَ، فمَبانيها العتيدةُ ما زالت شامخةً، أسواقُها وحاراتُها وأزِقتُها تحتفظُ بمَعالمِها القديمةِ، فهي من  أكبرِ وأجملِ المدنِ الفلسطينيةِ! ولها مكانةٌ خاصةٌ في نفوسِ سكانِها وسائحيها، وهي قاعدةٌ لقضاءِ الناصرة منذُ أواخرِ العهدِ العثماني، وقد تعرّضتْ الناصرة للاحتلالِ الإسرائيلي منذُ عامِ (1948)، فهاجرَ عددٌ قليلٌ من سكانِها نتيجةً لذلك، وصمدَ أكثرُهم رغمَ قسوةِ الاحتلالِ، فكانت تعاني الاختناقَ والتسلطَ على يدِ سلطاتِ الاحتلالِ، التي أنشأتْ مدينةَ “تزاريت عليت” أيْ الناصرة العُليا، على مرتفعٍ جبليٍّ بالقربِ منها؛ للتحكمِ في رقابِ سكانِها.

تقعُ “الناصرة” في قلبِ الجليلِ الأدنَى، وتطلُّ على سهلِ “مرج ابنِ عامر” من الشمالِ، فهي لذلك نقطةٌ انتقاليةٌ بين منطقةِ “مرجِ ابنِ عامر” السهليةِ، ومنطقةِ الجليلِ الأعلى الجبلية،ِ وقد كان لموقعِها الجغرافي أهميةٌ منذُ القديمِ، فكانت طرُقٌ فرعيةٌ تَصِلُها بالطرقِ الرئيسةِ التي تربطُ بين سورية ومصر من جهةِ والأردن وفلسطين من جهة ثانية.

وتربّعَ موقعُ الناصرة على المجالاتِ التجاريةِ والسياحيةِ والعسكريةِ، فموقعُها الجغرافي في بقعةٍ تتوسطُ  بيئاتٍ متنوعةً حولَها؛ جعلَها مركزَ التبادلِ التجاري لمنتجاتِ هذه البيئاتِ، ووقوعُ الناصرة في بقعة مقدّسةٍ عند المسيحينَ؛ جعلَها محطَّ أنظارِ السياحِ الذين يفِدونَ إليها لزيارةِ الأماكنِ التي ارتادَها السيدُ المسيح، ومشاهدةِ المواقعِ الأثريةِ المحيطةِ بالمدينةِ والتمتعِ بالمناظرِ الطبيعيةِ الجميلةِ.

ومن أبرزِ المواقعِ الأثريةِ في مدينةِ الناصرة كنيسةُ البشارةِ الكاثوليكية، التي عُرفتْ أيضاً باسم بازيليكا البشارة، وتُعدُّ إحدى الكنائسِ الأكثرِ قدسيةً في العالمِ المسيحي، ذاتِ الحضورِ البارزِ في مركزِ المدينةِ، أُنشِئتْ حيثُ كان فيها بيتُ مريم والدةِ سيدنا عيسى عليه السلام.

 

ويُعدُّ الجامعُ الأبيضُ أقدمَ مساجدِ مدينةِ الناصرة؛ حيثُ يقعُ في البلدةِ القديمةِ، الذي يُعَدُّ مركزًا ثقافيًّا ودينيًّا مُهِمًّا. لم يأتِ اسمُ المسجدِ بسببِ الحجارةِ البيضاءِ التي كانت تدخلُ في عمليةِ البناءِ؛ وإنما لكونِ اللونِ الأبيضِ يرمزُ إلى الطهارةِ والنقاءِ، وهذا ما يمثّلُه الجامعُ الأبيضُ خلالَ دعوتِه الدينيةِ والاجتماعيةِ… ومرَّ في بنائه بعدّةِ مراحلَ.

تتميزُ البلدةُ القديمةُ، أو ما يُعرفُ بالسوقِ النصراوي بأصالتِه، حيثُ يعرضُ تشكيلةً كبيرةً من المحلاتِ، والبضائعِ، والبناياتِ الأثريةِ من الحقبةِ العثمانيةِ، وتقعُ غالبيةُ المراكزِ الجذابةِ في المدينةِ في أزِقّةِ السوقِ.

تعودُ بدايةُ هذا السوقِ إلى القرنِ السابع عشر، وشهدَ نهضةً وازدهاراً في القرنِ التاسع عشر، وقد كان السوقُ مُصنّفاً في الماضي حسبَ التخصصاتِ المختلفةِ مِثل: (سوق المجلسين أو النجارين أو العرائس أو الخضار) وغيرِها، غيرَ أنّ الأوضاعَ تغيّرتْ، ولم يبقَ من هذه التخصصاتِ والمواضيعِ اليومَ سِوى الاسمِ، كما ونجدُ في السوقِ حوانيتَ للأدواتِ واللوازمِ البيتيةِ، والخضارِ والفواكهِ والحلوى التقليديةِ، والأقمشة والشالات والخياطة والحياكة، ومختلفِ أنواعِ الحِرف، وإنْ ما يجعلُ زيارةَ السوقِ زيارةً ذاتَ نكهةٍ متميزةٍ؛ هي الروائحُ المنبعثةُ من أزقّتِه وبيوتِه القديمةِ والعريقةِ.

لعل ما يميّزُ الإنسانَ الفلسطيني هو الزِّيُ التقليدي المعروفُ، فبعدَ أنْ اختلطتْ الناصرة بمَن حولَها؛ تنوّعتْ أزياؤهم، فقد امتازَ لباسُ الرجلِ والمرأةِ بكثرةِ القِطعِ التي يرتديها كلٌّ منهم، كما أمتازَ لباسُ أهلِ الناصرة، وخاصةً لباسَ المرأةِ بِطولِه، إذْ كان يغطّي جسمَها بالكاملِ؛ باستثناءِ الوجهِ واليدينِ. ومن الأسماءِ المألوفةِ لزيِّ المرأةِ الناصرية “الصمادة”؛ وهي كيسٌ أسطواني محشوٌّ بالقطنِ كانت توضعُ على الرأسِ، و”الزربند” وهي قطعةٌ من الحريرِ مخطّطةٌ بألوانٍ مختلفةٍ تُطوى من الأعلى، وتوضعُ فوقَ الصمادةِ، وتعصبُ بمنديلٍ طويلٍ يرسلُ على الظهرِ، ويربطُ الوسط بزِنّار، إضافةً إلى “العصبة ” التي هي عبارةٌ عن منديلٍ يطوي ويكسو أعلى الصمادةِ  الجلابة، وكذلك الدامرُ والقُمبازُ والعباءةُ وغيرُها من ألبسةِ النساءِ.

ومع مرورِ الزمنِ أخذَ استعمالُ هذه الألبسةِ يقِلُّ، فانتقلتْ النساءُ إلى اللباسِ الحديثِ، وأُلغيتْ الصمادةُ والعباءةُ والعصبةُ وغيرُها، أمّا لباسُ الرجلِ، فكان متميزاً بالعمامةِ البيضاءِ للمسلمِ، والسوداءِ للمسيحي، ثم الطربوشِ والحطّةِ والعقالِ والقمبازِ والسروالِ والعباءةِ وغيرِها، وقد قلَّ لبسُ العمامةِ باستثناءِ الفقهاءِ المسلمين، وشاعَ لبسُ الطربوشِ الأحمرِ، كما قلَّ استعمالُ القمباز، ثم حدثتْ النقلةُ من القديمِ إلى الحديثِ، وشاعَ اللباسُ الحديثُ؛ مثلَ “الجاكيت والقميص والبنطلون”، أمّا الشيءُ المتبقي من الزِّي القديمِ فهو الحطةُ والعقالُ، الذي ما زالت قطاعاتٌ كبيرةٌ من الأهالي ترتديهِ.

تعدُّ مدينةُ الناصرة مجمعاً كبيراً للصناعاتِ الحِرفيةِ؛ حيثُ اعتمدَ السكانُ المقيمون حولَ مدينةِ الناصرةِ عليها في تلبيةِ احتياجاتِهم، وكان لا بدّ لهذه المدينةِ من توفيرِ مِثلِ تلكَ الاحتياجاتِ، فقد ازدهرتْ المدينةُ… وجدَّ أهلُها في العملِ، فاشتغلَ قسمٌ منهم بزراعةِ الأشجارِ والخضراواتِ، بيمنا اشتغلَ قسمٌ آخَرُ برعيِ الأغنامِ والمواشي، كما ازدهرتْ كذلك الصناعاتُ الخفيفةُ مِثل: أعمالِ التجارةِ والحدادةِ والدباغةِ والخياطةِ والصباغةِ وأعمالِ البناءِ والهدايا التذكاريةِ من سجادٍ ونحاسٍ وخشبٍ محفورٍ، إضافةً إلى أعمالِ التجارةِ؛ حيثُ كانت تمثلُ السوقَ الرئيسَ لعشراتِ القرى التي تبيعُ ما تنتجُه فيها، وتبتاعُ منها كلَّ ما تحتاجُه، كما اشتهرتْ نساءُ الناصرة بأشغالِ الإبرة، ويوجدُ في الناصرة معاصرُ للزيتونِ والسمسمِ لاستخراجِ الزيتِ والطحينةِ، وفيها مصانعُ للصابون.

العرسُ هو أحلى مناسبةٍ في الوسطِ الشعبي، و أكثرُها بهجةً في المدينة؛ ففيه يعمُّ الفرحُ على كلِّ فردٍ من أفرادِ المدينةِ، و يبتهجُ الأطفالُ بمراقبةِ مراسيمِ و طقوسِ الاحتفالِ بهما, وفي هذه المناسبةِ يتاحُ لكُلِّ شخص أنْ يُطلقَ العنانَ لعواطفِه؛ فيغنّي ويرقصَ ويتحررَ من رتابةِ الحياةِ اليوميةِ القاسيةِ، فالعرسُ في محافظةِ الناصرة هو حقاً “الفرحُ الشعبيُّ العام”.

وللزواجِ تقاليدُه الخاصةُ به في المجتمعِ الناصري، والذي يتميزُ بطابعِه المحافظِ، ولا تختلفُ عاداتُ الزواجِ وتقاليدُه كثيراً عن المدنِ الفلسطينيةِ الأخرى، حيث تجري احتفالاتُ النساءِ بشكلٍ منفصلٍ عن الرجالِ، وتسيرُ الأغنيةُ الشعبيةُ جنباً إلى جنبٍ مع مراسيمِ العرسِ بشكلٍ عام، على مراحلَ متتاليةٍ؛ تبدأ بالخِطبةِ وتشملُ اختيارَ العروسِ و الُطلبةَ الرسميةَ، وقد تشملُ “كتْبَ الكتاب” ، و تجري ضمنَ حفلةٍ واحدةٍ تسمّى”الصَمْدة”.

و في حفلةِ الخطوبةِ تغني النساءُ أغنياتٍ عديدةً؛ تشيرُ إلى فرحةِ أهلِ العريسِ بالعروسِ، ويلاحظُ أنّ أغلبَ المُغنياتِ من أهلِ العريسِ، و تركّزُ هذه الأغاني على صفاتِ العريسينِ، كجمالِ العروسِ، ووسامةِ العريسِ، وحسَبِهما ونسَبِهما ومكانتِهما الاقتصاديةِ في المدينةِ بالدرجةِ الأولى، بالتالي الاجتماعيةِ، بعد ذلك يتمُ شراءُ الكسوةِ وعملُ ليلةِ الحنّاءِ للعروسِ، في الوقتِ الذي يكونُ فيه العريسُ مع أصحابِه يحتفلونَ به.

وفي يومِ الزفافِ يذهبُ العريسُ للاستحمامِ، وارتداءِ ملابسِ الزفةِ، ويخرجُ مع أصحابِه إلى بيتِ العروسِ، وعندَ قدومِ أهلِ العريسِ لأخذِ العروسِ؛ تغني النساءُ مؤكّدةً العلاقةَ الوثيقةَ التي سوف تربطُ العائلتينِ المتصاهرتينِ، وعندما تنزلُ العروسُ عن “اللوج”  بمُساعدةِ وليِّ أمرِها ورجالِ عائلتِها؛ تغنّي النساءُ من أهلِ العريسِ أنهم لم يقصّروا في حقِّ العروسِ و أهلِها, ولذا عليها أنْ تكونَ فرِحةً بالانتقالِ لبيتِ الزوجيةِ، وتخرجُ العروسُ إلى بيتِ زوجِها وسطَ الزعاريدِ والمُهاهاةِ.

هكذا هي مدينةُ الناصرة، بموقعِها العظيمِ الذي يشكّلُ أهميةً كبيرةً؛ فهي نقطةُ التقاءِ الجبلِ بالسهلِ، كما وتربطُ بينَ الطرقِ الرئيسةِ المتصلةِ بمصرَ وسوريا، بالإضافةِ إلى أنّ “مريمَ العذراءَ” وُلِدتْ فيها، وبُشّرتْ بعيسى عليه السلام، وقضَى معظمَ حياتِه فيها، ونُسب إليها، فتبقى الناصرةُ بعاداتِها وتقاليدِها وأهلِها مِثالاً حياً للمدينةِ الفلسطينيةِ العريقةِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى