كتاب الثريامدونات الثريا

الترفيع الآلي – ظاهره الرحمة وباطنه العذاب

بقلم: أ. محمد شفيق السرحي

دخلَ غرفةَ الإدارةِ مسرعاً ؛ يسألُ عن مديرِ المدرسةِ , وبصوتٍ جَهوَريٍّ مرتفعٍ , أنتم ظلمتُم ولدي،  ولم تكونوا صادقينَ معي , أريدُ لابني أنْ يتعلّمَ , ويعرفَ القراءةَ والكتابةَ , وأنْ ينجحَ عن جدارةٍ واستحقاقٍ , من تريدونَ ليتدخّلَ لوضعِ ابني في برنامجِ المعالَجةِ ” يقصدُ مشروعَ الأملِ لمعالجةِ ضعافِ التحصيلِ ” , يردُّ المديرُ بأنّ ابنكَ قد نجحَ , وعلاماتُه الفصليةُ لا تؤهِلُه للالتحاقِ بالبرنامجِ ؛ كونَه يستهدفُ أصحابَ الدرجاتِ المتدنّيةِ , والمُكملينَ والراسبينَ , أجابَ الرجلُ مستدرِكاً , ولكنّ ولدي لا يعرفُ القراءةَ والكتابةَ , وقد نجَّحتموهُ , ورفعتُم درجاتِه.. ولكنه فِعلياً لا يعرفُ القراءةَ والكتابةَ وأُسُسَ الحسابِ , وأنا والدُه ووالدتُه أيضاً لا نعرفُ القراءةَ والكتابةَ , ولا نريدُ أنْ نخدعَ أنفسَنا , حتى لا يَخرُجَ مِثلَنا , نريدُ له أنْ يتعلّمَ حقيقةً , وأنْ ينجحَ بالفعلِ وِفقَ تحصيلِه الدراسيّ , وبما أنّ الشروطَ واضحةٌ للالتحاقِ بالبرنامجِ ” برنامجِ الأملِ لمعالجةِ ضِعافِ التحصيلِ”؛  الذي ترعاهُ وزارةُ التربيةِ والتعليمِ  , فإنّ الطالبَ ووالدَه , مُنِعا من الموافقةِ للالتحاقِ بالبرنامجِ , وسيَظلُّ الطالبُ نظامياً , وعليه أنْ يحاولَ ويحاولَ في المواكبةِ والمزامنةِ مع أقرانِه من نفسِ المرحلةِ , وهو “لا يمتلكُ القدْراتِ والإمكاناتِ الأساسيةَ  , لعلَّ وعسَى .

الموقفُ السابقُ حصلَ أمامَ ناظِريَّ، وأنا أتأملُ موقفَ الأبِ المُشفِقِ على ابنِه، ويريدُه أنْ يتعلمَ، وألّا يكونَ ضحيةً، كما سبقَه والداهُ من قبل، ولكنْ ما باليدِ حيلةٌ _كما يقولونَ_ وهو يحاولُ ويحاولُ..، ويطلبُ ممن حولَه التدخُلَ لدَى المديرِ والإدارةِ لنقلِ ولدِه إلى فصلِ المعالَجةِ؛ لأنه يَعلمُ المستوَى الحقيقَ لابنِه، وفي الحقيقةِ أنّ موقفَ الوالدِ المشفِقِ يُشكَرُ عليه، ويعبِّرُ عن حالةٍ مؤلمةٍ ومحزنةِ، وصريحةٍ مع نفسِها، وجريئةٍ في ذاتِ الوقتِ، ولكنْ هَيهات.. ! .

أقرّتْ وُتقِرُّ وزارةُ التربيةِ والتعليمِ الفلسطينيةُ نسبةَ (5 % ) للرسوبِ في الفصولِ الدراسيةِ , ما بعدَ الصفِّ الرابعِ , وِفقَ أُسُسِ النجاحِ والرسوبِ , التي تعلنُ عنها دائماً , ووِفقَ ما يُسمَّى ب ” الترفيعِ الآليّ ” , والتقليلِ من الهَدرِ التعليميّ , ويحصلُ الطالبُ على شهادةِ النجاحِ , والانتقالِ لمرحلةٍ أخرى , وتظلُّ الاعتباراتُ المختلفةُ لكلِّ مَدرسةٍ وإدارتِها ,هي الحَكَمُ في مَن يكونُ نصيبَه النجاحُ أو الرسوبُ , خاصةً من أصحابِ المعاركِ الجانبيةِ , أو الأحلامِ الورديةِ , والمصالحِ الشخصيةِ ,  أو الواسطةِ والمحسوبيةِ , وقد يَحزنُ ويتأذَّى البعضُ , أو يفرحُ البعضُ الآخَرُ , ولكنْ هناك من يُخفي في نفسِه , ما لا يستطيعُ البوحَ به من حقائقَ مُرّةٍ ومريرةٍ لهذه النتائجِ والمستوياتِ! , وصولاً لامتحاناتِ الثانويةِ العامةِ ,  لنتفاجأَ بما لم يكنْ في الحسبانِ وارِداً , أو نُصدَمْ من الحقيقةِ المُرّةِ التي أُخفيتْ طوالَ سنينَ عِجافٍ .

قد يرى بعضُ التربويينَ  وَجاهةً في مسألةِ الترفيعِ الآليّ! , تقليلاً للهدرِ التعليميّ , ومراعاةً لظروفٍ معيّنةٍ تسيرُ فيها العمليةُ التربويةُ والتعليميةُ , ومراعاةً لخصائصِ النموِّ العُمريةِ , والاعتباراتِ الاجتماعيةِ والتعليميةِ , ولكنّ المشكلةَ تَكمنُ في التفاصيلِ والتطبيقِ , والأشخاصِ الذين ينالُهم هذا القانونُ , ولستُ هنا بصدَدِ إعلانِ الحربِ على الترفيعِ الآليّ؛ بقَدْرِ إعلاءِ الصوتِ ضدّ الطريقةِ السيئةِ التي يَتِمُ توظيفُه وتفصيلُه وتطبيقُه في بلادِنا؛  خاصةً في المرحلةِ الأساسيةِ الدُنيا! , والتي تُمَهِدُ لمرحلةِ النضجِ والتفوقِ والنجاحِ والإبداعِ في المراحلِ الأساسيةِ والثانويةِ القادمة ؛ ولذلك ترى كثيراً من الدولِ المتقدّمةِ , تَسوقُ خيرةَ رجالِها للمرحلةِ الأساسيةِ الدنيا , وحملةَ الشهاداتِ العُليا , ” وهذا ما فعلَه عدوُّنا الصهيونيّ ؛ كونَه مجتمعاً عسكرياً , حيثُ ساقَ الرُّتبَ العسكريةَ العاليةَ , وحملةَ الشهاداتِ العُليا , ووضعَ إمكاناتِه الكبرى ووظَّفَها  في مرحلةِ ما قبلَ المدرسةِ ” التمهيدي ” , وما بعدَها “, مع عِلمِنا الكاملِ أنه لا يوجدُ في المنهجيةِ التعليميةِ التعلُّميةِ ما يُسمّى ” بالصفرِ المُطلَقِ ” للتحصيلِ الدراسيِّ للطلبةِ .

رأيتُ في المرحلةِ الثانويةِ _ إبانَ فترةِ تدريسي لها ؛ وخاصةً الثانويةَ العامةَ_ , مَن لا يجيدُ كتابةَ اسمِه بالعربيةِ , فضلاً عن الإنجليزيةِ! , ومن لا يعرفُ أركانَ الإيمانِ من أركانِ الإسلامِ! , أو أنْ يقرأَ قصارَ السوَرِ في القرآنِ الكريمِ! , وهذا ليس بخافٍ على أحدٍ من المُتابعينَ للشأنِ التربويِّ والتعليميّ في بلادِنا , وعددُهم ليس بالقليلِ , وليس بالكثيرِ في نفسِ الوقتِ , مقارَنةً بأعدادِ المُجيدينَ والمتفوّقينَ , ولكنّ المُقلِقَ هو أنه كيف لطالبٍ يجتازُ المرحلةَ الأساسيةَ الدُنيا , والعُليا , ثُم الثانويةَ العامةَ  _بمُعدلِ ثماني سنواتٍ بعدَ الصفِّ الرابعِ _؛ وهو لا يَعلمُ لغتَه الأُمَّ , والقراءةَ والكتابةَ والتحدُّثَ بها , والبديهياتِ الأساسيةَ من احتياجاتِه لحياتِه اليوميةِ والمستقبليةِ بعدَ ذلك! , ثُم تريدُه أنْ يفهمَ العلومَ الإنسانيةَ، والعلومَ العلميةَ وغيرَها , والكُلُّ يَعلمُ أنّ مفتاحَ العلومِ  اللغةُ الأمُّ،  والرياضياتُ والعلومُ ” أُم العلومِ العلميةِ ” .

الأبحاثُ التربويةُ، والدراساتُ العلميةُ المتعلقةُ بالترفيعِ والانتقالِ تُحترَمُ في هذا الاطارِ؛ ولأنّ كلَّ مجتمعٍ له خصوصيتُه، فإنّ مجتمعَنا الغزيَّ_ الذي نِسبةُ الأميّةِ فيه لا تكادُ تُذكَرُ_، بحاجةٍ إلى مراجعاتٍ علميةٍ وعمليةٍ، في الطرُقِ والآلياتِ التي يتمُ فيها تطبيقُ مبادئِ الترفيعِ والانتقالِ, واستغلالُه من قِبلِ البعضِ _ بسوءِ نيّةٍ أو بِحُسنِها_  ، والتركيزُ على نوعيةِ المُدخلاتِ التربويةِ , الخاصةِ بالعمليةِ التربويةِ والمنظومةِ التعليميةِ بِرمَّتِها , من بيئةٍ مدرسيةٍ راقيةٍ , ومعلمينَ مؤهَلينَ تأهيلاً عالياً , وإدارةٍ مدرسيةٍ مُتَمكِّنةٍ وفاعلةٍ , ومناهجَ تربويةٍ ترتقي بالطالبِ وتناسبُ نُموَّهَ وخصائصَه , وهكذا .

إذا كُنا نريدُ تطبيقاً علمياً وعملياً , لمنطقِ الترفيعِ الآليّ ؛ فهذا يتطلبُ مِنا , مراجعةً مستمرةً لمُخرجاتِ العمليةِ التربويةِ التعليميةِ التعلُّميةٍ ؛ بدايةً من الحجرةِ الصفّيةِ , إلى المدرسةِ , إلى السياساتِ والقراراتِ الناظمةِ لأُسسِ النجاحِ والرسوب , ثُم استهدافِ الطلبةِ في المرحلةِ الأساسيةِ بامتحاناتٍ تشخيصيةٍ دوريةٍ تَكشفُ عن المستوياتِ الحقيقةِ للطلبةِ , يَعقبُها برامجُ علاجيةٌ على غرارِ ” برنامجِ الأملِ للتعليمِ العلاجي ” , وتوعيةُ المعلمينَ بالمنطقِ السليمِ لأسلوبِ الترفيعِ والانتقالِ للطالبِ , وألّا نُفرِحَ الطالبَ وأهلَه ؛ ونحن في حقيقةِ الأمرِ نغُشُّ أهلَ الطالبِ , وابنَهم والأُمةَ جميعاً , ثُم لِنفتحْ الأبوابَ والإمكاناتِ مُشرَعةً أمامَ تشجيعِ التعليمِ المِهني , واكتشافِ المواهبِ وتنميتِها , وتشجيعِ الطالبِ وأهلِه لمسايَرتِها واحتضانِها .

ما سبقَ يقودُنا، لاستخلاصِ الدروسِ والعِبرِ، من الواقعِ المريرِ لكثيرٍ من الحالاتِ التي خرجتْ كمشاريعَ جريمةٍ للمجتمعِ، أو مجموعةِ الفاسدينَ والحاقدينَ عليه؛ بسببِ عدمِ التوافقِ التربويّ والتعليميّ، والجهلِ والأُميةِ التي نالتْهم، بعدَ فقدانِهم حالةَ المواكَبةِ المستمرةِ والمتابَعةِ من قِبلِ المنظومةِ التربويةِ والتعليميةِ، وكانوا ضحيةَ الترفيعِ الآليّ في بعضِ جوانبِه، الذي كان ولا يزالُ في ظاهرِه الرحمةُ، وفي باطنِه من قِبلِه العذاب. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى