الثوبُ الفلاحي يعودُ إلى الأسواقِ بقصّاتٍ وتصاميمَ عصريةٍ

بخارطةِ الوطنِ وترانيمِ العودة
الثوبُ الفلاحي يعودُ إلى الأسواقِ بقصّاتٍ وتصاميمَ عصريةٍ
على الرغم من تسابقِ فتياتِ هذا الجيلِ؛ لمواكبةِ صيحاتِ الموضةِ المستوحاةِ من بيوتِ الأزياءِ الغربية؛ إلاّ أنّ الثوبَ الفلسطينيَ التراثيَ عاد ليَعُجَّ بأسواقِ مدينةِ غزة؛ متزاهياً بألوانِه وقصّاتِه الجديدةِ، وتصاميمِه وإضافاتِه العصريةِ؛ ليصبحَ موائمًا لاحتياجاتِ الجيلِ الشابِّ، إضافةً إلى المحافظةِ على التراثِ والثوبِ الفلسطيني من الاختفاءِ، أو اقتصارِ ارتدائهِ على المناسباتِ كتقليدٍ قديمٍ من خلالِ إدخالِ التطريزِ الفلاحي على أيِّ قطعةِ ملابسَ تريدُها المرأةُ؛ سواءً كانت بلوزةً أو بنطالاً أو حتى فستاناً يُرتدى بالمناسباتِ السعيدةِ، ليتمَ إضافةُ حزامٍ مطرّزٍ للخصرِ، أو إضافةِ تطريزٍ على أكمامِ البلايز، أو حوافِ البناطيل، أو شالٍ خفيفٍ مطرّز.
المُعاصرة في الأثوابِ نجحتْ باختراقِ محيطِ الموضة؛ ليحتلَّ بتصماميمِه وغُرزِه كافةَ المناحى، ويصبحَ اقتناؤها جزءاً من الهويةِ، وجزءاً من اليومياتِ والحياةِ السلوكيةِ ، فلا تكفُّ الأعينُ عن مشاهدةِ التطريزِ الفلاحي في الملابسِ والأدواتِ والشُنطِ والأقلامِ والإكسسوارت .
تحقيق :ديانا المغربي
“إسلام البربار” مديرة راديو نساء غزة المجتمعي، واحدةٌ من السيداتِ التي تفضّل ارتداءَ الثوب الفلاحي في كافةِ المناسباتِ، وتحرصُ بشكل خاص على ارتداءِ ثوبِ مدينة يافا في كل المؤتمراتِ، وورشاتِ العملِ الخارجيةِ والداخليةِ؛ لإيمانِها الوثيقِ أنّ الثوبَ جزءٌ أصيلٌ من حكاية الشعبِ الفلسطيني .
وتضيفُ.. في الآونةِ الأخيرةِ عاد الثوبُ بأصالتِه المعروفةِ مع بعض المعاصرةِ؛ ليشكّلَ جزءاً من هويةِ الجيلِ المطلوبةِ في هذا المرحلةِ بالذاتِ في ظِلِّ الانفتاحِ الثقافي، وفى ظِل طغيانِ الدعايةِ الإسرائيليةِ، ومحاولةِ تهويدِ كلِّ ما هو فلسطيني! .
معركةُ الصمودِ
بينما تقولُ السيدة دعاء مصلح :” إنّ الثوبَ الفلسطيني كان ومازال محلَّ اهتمامِ جميع السيداتِ في مجتمعنا الفلسطيني؛ لِما له من أهميةٍ تراثيةٍ وقيمةٍ حضاريةٍ نتوارثُها عبر الأجيالِ ، واهتمامي _كغيري من سيدات المجتمعِ_ بالثوبِ الفلسطيني يؤكّدُ على تمسُكنا بهويتِنا الفلسطينيةِ، وحِرصِنا على إبرازِ الذوقِ العالي للمرأةِ الفلسطينيةِ .
وترى “مصلح” أنّ حضورَ الثوبِ بأصالةِ الماضي، ورُقيِّ الحاضرِ هو جزءٌ من معركةِ الصمودِ، التي نقودُها من أجلِ الحفاظِ على مفاصلِ القضيةِ و إرثِها التاريخي دونَ ضياعٍ .
ثوبٌ في الأممِ المتحدة
الجديرُ بالذكرِ أنّ التطريزَ الفلاحي يظهرُ في أحدثِ تصاميمِ الموضة وصالاتِ عرضِ الأزياء العالمية!؛ وذلك من خلال عرضِ الأزياءِ الذي قدّمه منتدى سيداتِ الأعمالِ الفلسطينياتِ في مقرِّ الأممِ المتحدة في نيويورك صيفَ (2015)، حيثُ حظيتْ قطعُ الملابسِ الخمسة التي تمَّ عرضُها على إعجابِ وانبهارِ الحضورِ، الذي وصل عددُهم ل( 300) شخصٍ من الشخصياتِ العالميةِ البارزة، خصوصاً أنّ المطرّزاتِ الفلسطينيةَ كانت مصدرَ إلهامٍ لنحوِ (80%) من طلبةِ كلياتِ الأزياءِ في مشاريعِ تخرُّجِهم، إضافةً إلى الاقترابِ من المستهلكِ العالمي والتعرّفِ على احتياجاتِه وأذواقِه.
من جانبه يقولُ الدكتور “عامر القبج” رئيسُ قسمَي التاريخ والسياحة والآثار لـ “السعادة” أنّ التطريزَ الفلاحي أحدُ الفنونِ الشعبية الرائعةِ التي اهتمتْ بها المرأةُ الفلسطينيةُ؛ كونَه تراثاً فلسطينياً مُهِماً، حاولَ الاحتلالُ الإسرائيلي على مرِّ السنواتِ النيلَ منه، وطمْسَ معالمِه بشتّى الطرُقِ والوسائل.
ويضيف: “جاءت كلمةُ التطريزِ الفلاحى من الفلاحِ الذي يَفلحُ الأرضَ، وسُميتْ هذه الغرزةُ بالفلاحي؛ لأنّ المرأةَ الفلاحةَ كانت تطرّزُها… وتسمّى الآن (الغرزة المصلّبة) وتشتهرُ الكثيرُ من المناطقِ الفلسطينيةِ بها، مِثل مناطق ( يافا – رام الله – الخليل – غزة- بئر السبع والمجدل وغيرها من المناطق)، إذ يعدُّ التطريزُ جزءاً مُهماً من حياة المرأةِ الفلسطينيةِ.
ويتابع: “جميعُ القرى تشتركُ في تطريزِ بعضِ القطبِ، وتختلفُ في وضعِها على الثوبِ، وفي بعض القرى يُكثرونَ استعمالَ قُطبٍ بعَينِها، فتتخذ كثرتُها دليلاً على انتسابِ الثوبِ إلى المنطقةِ، فالقطبتانِ الشائعتانِ في قضاء غزة هما القلادةُ والسروة، وفي رام الله يفضّلونَ قطبةَ النخلةِ واللونينِ الأحمر والأسود، والتطريزُ متقاربٌ في بيت دجن، ويظهرُ فيه تتابعُ الغرزِ التقليدي، وتمتازُ الخليلُ بقطبة السبعاتِ المتتاليةِ، وتكثر فيها قطبة الشيخ، وثَمّة غرزةٌ منتشرةٌ بين الجبلِ والساحلِ تُسمّى الميزان، وغرزةُ الصليبِ هي الأكثرُ شيوعاً في التطريز.
ورثتها عن أمي
أم جهاد شامية، إحدى النساء اللواتي لا تبارحُ الإبرةُ والخيوطُ أناملَها، تعملُ في أحدِ برامجِ العملِ النسائي التابعةِ لوكالةِ غوثِ وتشغيلِ اللاجئين، تقول لـ “السعادة”: “شكَّلَ التطريزُ منذ بداياتِه الأولى لوناً من ألوان التراثِ الشعبي الفلسطيني، و حرصتْ النساءُ الفلسطينياتُ على اقتناء هذا الثوبِ ضِمنَ خصوصياتِهنّ؛ لا سيّما جهازُ العروسِ الذي لا يكتملُ بدونِه، فكانت كلُّ أمٍّ تحرصُ على أنْ تصنعَ الثوبَ المطرّزَ باللونِ الأحمرِ، المُزدان بالورودِ الحمراءِ، والعروقِ الخضراءِ لابنتِها، إضافةً إلى تطريزِ حاجياتِها الضرورية في المنزلِ؛ لتضفي عليه لمسةَ جمالٍ مُستوحاةً من الواقعِ الذي تعيشُه.
لكُلِّ مقامٍ مَقالٌّ
وتقول أم جهاد: “لكُل مقامٍ مقال؛ فثيابُ المُسناتِ من النساء لا تطرّزُ مثلما تطرّزُ ثيابُ الفتياتِ التي تزخرُ بالزخرفِ، فيما تتسِمُ ثيابُ المُسنّاتِ بالوقارِ؛ فالقماشةُ سميكةٌ؛ ولونُها قاتمٌ، ووحداتُها الزخرفيةُ تميلُ ألوانُها إلى القتامةِ؛ فهي ألوانُ الحشمةِ التي ينبغي أنْ يتصفَ بها المُسنّون، أمّا الفتياتُ فزخرفةُ ثيابهنّ ذاتُ ألوانٍ زاهيةٍ ومختلفةٍ مع الامتناعِ عن التبرجُِ، وثيابُ العملِ لا تُزخرفُ مثلما تزخرفُ ثيابُ الأعيادِ والمواسمِ، والثوبُ الأسودُ يغلبُ في الأحزانُ والحدادُ”.
وتوضّح لـ”السعادة” يوجدُ نوعان للتطريزِ؛ أحدُهما أجملُ من الآخَرِ، وهو التطريزُ العادي، حيث تكونُ الغرزةُ فيه على شكلِ علامةِ الضرب ” x” أمّا الحبة فتكونُ عبارةً عن غرزتينِ متتاليتين. أمّا النوعُ الثاني من التطريزِ الذي هو أقلُّ انتشاراً ؛ فيُطلقُ عليه التطريزُ المثمنُ؛ ويكونُ عبارة عن أربعِ غُرَزٍ متقاطعةٍ على شكلِ علامةِ الجمع “+”.
وتصفُ الأدواتِ التي تستخدمُها في مطرزاتِها، كالخيوطِ المختلفةِ الألوانِ والأنواع فتقول: “منها ما هو سادة، ومنها الموَنس الذي يكونُ خليطاً بين لونينِ، أحدُهما يكونُ داكناً والآخَرُ فاتحاً، أمّا الإبرةُ فهي مختلفةُ المقاييسِ وفقاً لحجمِ الغرزةِ أو الرسمةِ المُرادِ تطريزُها على الثوبِ أو الوسادةِ؛ فمنها القصيرةُ الناعمةُ، ومنها الطويلةُ الغليظةُ تستخدمُ حسبَ حاجتِها إليها، كما تستخدمُ بعضُ النساءِ المرد ” الكُشتبان”؛ وهو قطعةٌ معدنيةٌ تضعُها المرأةُ في إصبعِها الأوسطِ لتزجَ به الإبرةَ بعيداً عن لحمةِ الإصبعِ كي لا تؤذيها، بالإضافةِ إلى المقصِّ والماركةِ التي هي عبارةٌ عن شبكةٍ تنسجُ عليها الرسوماتُ بدقّةٍ؛ حيثُ أنها تستطيعُ من خلالِها ضبطَ عددِ الغُرز”.
هويةٌ و وجودٌ
من جانبها تقولُ مديرةُ مركز التراثِ الفلسطيني في بيت لحم، “مها السقا”: الثوبُ الفلسطيني هويةٌ لوجودِنا في كل قريةٍ أو مدينة، ويمكنُنا تمييزُ الفلسطينياتِ حسبَ منطقتِها من نوعِ الثوبِ الذي تلبسُه، لأنّ المرأةَ الفلسطينيةَ نقلتْ الطبيعةَ وكلَّ معتقداتِها على ثوبِها.
وتوضح: الثوبُ في يافا مثلاً رسمتْ عليه المرأةُ الفلسطينيةُ ألوانَ زهرِ البرتقالِ الذي يحيطُه السرو، وثوب بئر السبع لونه أحمر، وخاصةً ثوبَ العروس، لكنْ في حال أصبحتْ المرأةُ أرملةً؛ كانت تطرزُ ثوبًا آخرَ باللونِ الأزرق، وإذا أرادت الزواجَ مرةً أخرى؛ كانت ترسمُ عليه الألعابَ لترمزَ أنها تريدُ الإنجابَ وعمارَ البيتِ، مشيرةً إلى أنّ الثوبَ يتحدثُ عن قصةٍ اجتماعيةٍ وعن ثراءِ العروس.
وتضيف السقا: الثوبُ الفلسطيني يتميزُ باللونِ الأحمرِ، فكنعان يعني أرجوان، والأحمر يختلف بدرجاتِه من منطقةِ إلى أخرى، فثوبُ غزة يميلُ إلى البنفسجي، أمّا الخليلُ فإلى البني، وبيت لحم ورام الله ويافا يميلُ إلى الأحمرِ القاني.
وتتابعُ.. كلُّ هذه التفاصيلِ تؤكدُ أنّ الثوبَ الفلسطينيَ حكايةٌ امتدتْ جذورُها إلى أكثرَ من( (4500 ) قبل الميلادِ، أي أنّ الكنعانيين هم من رسّخَ وجودَ هذا الثوبِ، فأحفادُهم ومنذُ آلافِ السنين لا يزالونَ يرسمونَ خيوطَه بأيديهم، ويضعون ألوانَه بأحزانِ كلِّ فصلٍ من فصولِ التاريخِ الفلسطيني.