غير مصنف

إعادةُ التدويرِ .. إبداعٌ وابتكارٌ يبُثُّ الحياة لِما هو قديمٌ وبالٍ

موادٌ مهمَلة لا يُلقى لها بالٌ، بقايا أوراقٍ ملونةٍ، وقصاصاتٍ كرتونيةٍ تملأ سلةَ القمامة، زجاجاتٌ فارغة، وعُلبٌ بلاستيكية بلا فائدة، مخلّفاتٌ يراها عامةَ الناسِ مُهملاتٍ مكانُها الصحيحِ هو مكبُّ النفاياتِ، بينما تراها العيونُ المبدعة، والعقولُ الراقية فرصةً للإبداعِ، ومادةً ملهِمةً وليست مهمَلةً وخامةً قيّمةً للصناعة، فتُحولُ هذه المخلفاتِ إلى منتجاتٍ مفيدةٍ ومسليةٍ وجماليةٍ، بهدفِ المحافظةِ على ما تبقّى من مواردِ البيئةِ، فتمتزجُ الأهدافُ النبيلة بالإبداعِ والابتكارِ؛ لتُنتجَ فناً راقياً هو فنُّ “إعادةِ التدوير”.

إنّ إعادة التدويرِ هو مفهومٌ مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالبيئةِ، حيث تشرحُ المهندسةُ “منى شتيه”، (المتخصصة في مجال البيئة المستدامة، وصاحبة مشروع “زركشات” لإعادة التدوير، بأنّ التدويرَ هو عملية إعادة استخدامِ المخلفاتِ المهملةِ، وتصنيعُ منتجاتٍ أخرى جديدةٍ وذاتِ فائدة، وبهذه العمليةِ يتمُ تحويلُ الموادِ القديمةِ ؛من مجردِ قمامةٍ لا فائدةَ منها، إلى موادٍ خامٍ أوليةٍ مستخدَمةٍ في الصناعةِ، فتوفّر الطاقة، وتقلّل استهلاكَ الموادِ الخام من الطبيعةِ، وتساهمُ بذلك في الحدِّ من مدافنِ النفاياتِ في المستقبلِ، وبالتالي تحافظُ على البيئةِ ودعمِ مفهومِ الاستدامةِ، الذي أصبح من أهمِ المفاهيمِ التي يسعى العالمُ المتقدمُ إلى تطبيقِها.

تدويرٍ أَم استخدامٍ؟

ومن المهمِ أنْ يتمَ التفريقُ بين مصطلحَي “إعادة التدوير، وإعادة الاستخدام” للمخلفاتِ؛ حيث توضّحُه بدرية سُكر (صاحبة مشروع (soveneer) لتدويرِ المخلفات الورقية) قائلة: “إنّ إعادةَ التدويرِ عملية يتمُ فيها جعلُ المادةِ المدوّرةِ تستخدمُ استخداماً مختلفاً تماماً عمّا كانت عليه قبل التدويرِ، فعلى سبيلِ المثالِ يتمُ إعادةُ تدويرِ الورقِ للحصولِ على مَرايا وأثاثٍ منزلي مَتينٍ وقوي، أو تحويلِ الأوراقِ المهملةِ إلى ديكورات وأوراقِ جدران غايةً في الروعةِ، حيثُ يتمُ تغييرُ خصائصِ الورقِ بطبخِه وتحويلِه إلى مادةٍ لزجة، يسهلُ تشكيلُها لتجفَّ وتصبحَ مادةً صلبةً متينة، أمّا إعادةُ الاستخدامِ فهو استخدامُ الموادِ نفسِها _بدونِ تغييرِ خصائصِها_ استخداماتٍ مغايرةً لاستخدامِها الأصلي، كاستخدامِ زجاجاتِ المشروباتِ الغازية لحفظِ الزيوتِ أو العصائرِ أو المياه”، وترى الخمسينية باسمة أبو زاهر (ربّة منزل، وممارسة لإعادة التدوير) أنّ إعادةَ استخدامِ الموادِ أمرٌ بدَهي تفرضُه الظروفُ الاقتصاديةُ، حيث لا يخلو منزلٌ من زجاجاتٍ أو علبٍ بلاستيكيةٍ أو أكياسٍ؛ يعادُ استخدامُها مراتٍ ومرات، وهذا لا يحتاجُ لشيء من الإبداعِ أو الخيالِ، بينما إعادةُ التدويرِ بحاجة إلى عينٍ ناقدةٍ وأفقٍ واسعٍ، وخيالٍ مبدعٍ قادرٍ على ابتكارِ مصنوعاتٍ مفيدةٍ، تختلفُ كلياً في الاستخدامِ والشكلِ عمّا صُنعتْ منه، فتتحولُ القِطعُ المهملةُ عديمةُ الفائدةِ إلى قطعٍ قيّمةٍ ومفيدة!.

 

فنٌ وإبداعٌ :

وترى م. “شتيه” بأنّ إعادة التدويرِ تنتمي وبقوة إلى قائمةِ الفنونِ حيث تقول:  “إنّ إعادة التدويرِ هي عمليةُ صياغةِ الأشياءِ، وتحويلِها بشكلٍ جذري من مجردِ قمامةٍ إلى مصنوعاتٍ مهمةٍ ومفيدةٍ، وهذه العمليةُ بحاجةٍ إلى ذوقٍ وفكرٍ وإبداعٍ؛ لكي يتمكنَ العقلُ من تجريدِ الأشياءِ، وحجبِ فكرةِ أنّ هذه الموادَ مُجردُ نفاياتٍ، فتستطيعُ عقولُنا رسْمَ صورةٍ جديدةٍ لهذه الموادِ في مخيلتنا، ومن ثم تطبيقَها على أرضِ الواقعِ، لتنتجَ قطعةً مفيدةً أو جميلةً من مخلفاتٍ لا قيمةَ لها، وعندها سيخدمُ الإبداعُ ما تبقّى من بيئةٍ سليمة، ويساهمُ بذلك في الحدِّ من كارثةٍ بيئيةٍ محتمة، ويثبطُ من العمليةِ الاستهلاكيةِ لمواردِ البيئةِ المتبقية، ليصلَ الإبداعُ والفنُّ إلى قِمتِه في خدمةِ مبدأ الاستدامةِ البيئي.

 

أفكارٌ بلا نهايةٍ :

وتعتقدُ “أبو زاهر” بأنّ نماذجَ إعادة التدويرِ كثيرةٌ جداً، وغيرُ محدودةٍ، طالما وُجِد الإبداعُ والخيالُ حيثُ يمكنُ صناعةُ منتجاتٍ مسلّيةٍ للأطفالِ، كالألعابِ الورقيةِ أو حافظاتِ الأقلامِ، والتي بالعادة تصنعُ من بقايا الأوراقِ وقصاصاتِ الكرتون، كما يمكنُ انتاجُ اكسسوارات نسائيةٍ، كالعقودِ والخواتمِ والأساورِ، أو حتى الحقائبِ؛ باستخدامِ أصدافٍ أو أحجارٍ مهملةٍ، أو أزرارٍ فائضةٍ، ومن أهم منتجاتِ إعادة التدويرِ تلك المتعلقة بالأثاثِ المنزلي، كالمرايا باستخدامِ العيدانِ الخشبيةِ، أو أوراقِ الجرائد، أو صناعةِ مقاعدَ باستخدامِ إطاراتِ السياراتِ القديمة، وإحداثِ بعضِ التغيّراتِ البسيطةِ في سُلمٍ خشبي؛ لتحويلِه إلى رفوفٍ للكتبِ أو التحفِ، كما يمكنُ تحويلُ مضربٍ رياضي قديمٍ إلى مرآةٍ أو لوحةٍ فنيةٍ، وتحويلُ فستانٍ أو بنطالٍ مهترئ إلى حقيبةٍ جديدة، أو استخدامُ قماشِ شالٍ قديمٍ في تنجيدِ وسادةٍ.

في التدويرِ توفير :

وتتنوعُ الفوائدُ المَجنِية من عمليةِ إعادةِ التدويرِ بين البيئيةِ، والجماليةِ، والفنيةِ، ولكنّ الفائدةَ الاقتصادية تأخذُ الحيزَ الأكبرَ، خصوصاً لدى الأفرادِ، ففي التدويرِ توفيرٌ على حدِّ قولِ “أبو زاهر” التي تؤمنُ بأنّ إعادةَ التدويرِ _مهما كانت مكلفة_ إلاّ أنها أقلُّ تكلفةً من الإنتاجِ الأوَلي، حيث يتمُ توفيرُ قيمةِ الموادِ الخام، بينما ترى “سكر” في التدوير كسباً للمالِ، وليس توفيراً وحسب فتقول: ” إنّ ما ترتكزُ عليه عملية إعادة التدويرِ، هو استخدامُ ما يتمُ إلقاؤه أو إهمالُه، فنحن نجمعُ هذه الأشياءَ بأقلِّ ثمنٍ، أو حتى مجاناً، ونقومُ بتغييرِ خصائصِها؛ إمّا عن طريقِ الطبخِ أو الصهرِ؛ لتكونَ مادةً خاماً أخرى مختلفةً تماما، ونصنعُ منها منتجاتٍ مفيدةً؛ لنبيعَها بأسعارٍ لا بأسَ بها لنكسبَ منها الكثير”.

ومما لا شك فيه أنّ إعادة التدويرِ هو نهجٌ مستدامٌ تتبِعُه الدولُ المتقدمةُ، وتدعمُه السلطاتُ الحاكمة للمساهمةِ في حمايةِ مصادرِ البيئةِ من الاستنزافِ، وهي عمليةٌ معقدةٌ وكبيرةٌ تحتاجُ إلى الكثيرِ من الجهدِ والمال، ولكنْ عندما تجدُ مُحبّي الابتكارِ والتجديدِ يساهمون في حمايةِ ما تبقّى من مواردِ البيئةِ، ويبثون الحياةَ من جديدٍ لِما هو قديمٌ ومهملٌ؛ تشعرُ بالفخرِ بأنّ هناك عقولٌ ترى أنّ من مسؤوليتها أنْ تُرشِّدَ الاستهلاكَ وفي نفسِ الوقتِ تصنعَ وتبتكرَ وتستفيدَ مادياً أو معنوياً مما تُنتجُ، وأجملَ ما في هذا الفنِّ هو رفعُ قيمةِ المهملاتِ، وتجريدُها من كونِها نفاياتٍ، وتزيينُها بأجملِ الألوانِ وأبهَى الخاماتِ؛ للحصولِ على منتجاتٍ مستدامةٍ تحترمُ وتدعمُ البيئةَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى