مين أولى

مين أولى
رشا فرحات
قرأتُ قصةً على السريعِ لشخصٍ أُصيبَ بالشللِ، وقضى أربعَ سنينَ يَجمعُ( 22) ألفَ باوند تبرعاتٍ للعلاجِ! لكنه عَلِمَ عن طفلٍ معاقٍ يحتاجُ إلى عمليةٍ؛ فتبرّعَ بكاملِ المبلغِ له!
وقصصاً شبيهةً بها عن أناسٍ أصيبوا في الحربِ الأخيرةِ على غزة؛ ولكنهم آثَروا غيرَهم لتحويلِهم للعلاجِ في مصرَ؛ لاعتباراتٍ رأوا أنها أولَى، وأنّ الآخَرَ أحقُّ بما هو موجودٌ!، يعني إذا كنتَ مريضاً متألماً، حتى لو كان جرحاً بسيطاً، فإنّ حياتَك ومحورَ تفكيرِكَ كلَّه سيكونُ في ألمِكَ الذي تشعرُ به، والذي لا تشعرُ أبداً بأنّ شيئاً أحقُّ منه بالإيثارِ، ولكنْ هناك من يَشعرُ!
تخيّلْ أنّ صفةَ الإيثارِ صفةٌ موروثةٌ عندَ البعضِ، أو هي طبيعةٌ تُغذَّى بالفعلِ الطيبِ، والإيمانِ الكاملِ، والأخلاقِ الراقيةِ، لأنكَ ترَى هذا الشخصَ _لا إرادياً_ يؤثِرُ الآخَرينَ على نفسِه، بِنيَّةِ إفراجِ كربٍ من كرباتِهم، حتى أنّ اللهَ يُهوِّنُ في عينيهِ كلَّ أمرٍ يخصُّه، فتراهُ يصغّرُ كلَّ مصائبِه وأمورِه وأحلامِه؛ مقابلَ تحقيقِ أحلامِ الآخَرينَ، ويَجدُ في ذلك متعةً كبيرةً جداً_ أجلْ_ دونَ مبالغةٍ! والأغربُ أنه دائماً بخيرٍ!؛ لأنّ اللهَ يباركُ له في كلِّ شيءٍ؛ جزاءً لِما يُعطيهِ للآخَرينَ .
وقد قرأتُ مِثالاً حياً على هذا التصرفِ السريعِ بدونِ تفكيرٍ، فمَثلاً: بطلُ التجديفِ “بيرس” كان بسباقٍ… وصادَفَه مجموعةٌ من البطِّ تَعبرُ النهرَ؛ فتوقفَ عن التجديفِ حتى تَعبُرَ! ولكنّ الغريبَ أنه فازَ بذلكَ السباقِ!
يعني هذا أنّ المُجدّفَ الرائعَ نسيَ السباقَ، ونسيَ الفوزَ، والمنافسينَ، وفكّرَ _فقط_ في مجموعةِ البطِّ التي لها الأولويةُ الآنَ بالعبورِ!!
وللعِلمِ لقد كان الجميعُ يعتقدُ أنّ الإيثارَ ينبعُ من محبةٍ زائدةٍ لشخصٍ مُعيَّن، والحقيقةُ أنا أرى الإيثارَ صفةً متأصِّلةً في خُلقِ الإنسانِ، فلو كنتَ واقفاً يوماً في صفٍّ داخلَ أحدِ البنوكِ؛ وكان البنكُ مزدحماً بالناسِ؛ ستَجدُ في هذه اللحظةِ الحاسمةِ؛( الحرَّ، والقرَفَ، والتعبَ، والزحامَ، والروائحَ الكريهةَ)؛ ستُحرِّكُ لدَى الناسِ صفةَ الإيثارِ على حقيقتِها.
فلو جاءت امرأةٌ كبيرةٌ في السنِّ، وطلبتْ أنْ يُوقِفَها أحدُهم بدَلاً عنه في بدايةِ الصفِّ؛ فستَجدُ نوعَينِ من الناسِ، نوعاً _تلقائياً_ وبدونِ أنْ تطلبَ… سيُدخِلُها… وهذا جَمعَ صفةَ الإيثارِ والأخلاقِ؛ لأنه يرى أنّ هناك خطٌّ أحمرُ يجبُ أنْ يتقيدَ به الجميعُ أمامَ كبارِ السننِّ؛ حتى لو تأخّرَ عن عملِه، أو جامعتِه، أو عن أيِّ مهمةٍ ، فالرجلُ الكبيرُ في السنِّ يجبُ أنْ يدخلَ أولاً.
وهناك فئةٌ أخرى _عافانا الله_ لو شافتك ميّت في الأرض، لن تَدخلَ قبلَها أبدا !
لكنْ من المُهمِ أيضاً أنْ نقولَ؛ أنّ هناكَ إيثارُ غلبان، هل تعرفُ من هو؟!!
ذلك الذي يؤثِرُ كلَّ من وقفَ خلفَه في طابورِ البنكِ على نفسِه، فتراهُ وقد آثَرَ هذا لأنه مريضٌ، وآثَرَ هذا لأنه كبيرٌ، وهذا لأنه قرفان، وهذا لأنه تأخَّرَ، ولكُلِّ واحدٍ حُجةٌ، وسيَبقَى هو في نهايةِ الطابورِ، كلٌ يَمُرُّ من أمامِه، ويسرقُ وقتَه وحصّتَه، وهذا طبعاً الهبلُ بعَينِه!، لأنه ليس بسببِ الإيثارِ العظيمِ الذي يتحلّى به، ولكنه بسببِ ضعفِه وعدمِ قدرتِه على قولِ لا.
فهمت قصدي (وقت اللا لا ، ووقت النعَم نعم)، والإيثارُ فضيلةٌ؛ بشرطِ أنْ يكونَ في مكانِه الصحيحِ.